Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 9-12)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { وتجعلون } : عطف على { تكفرون } . و { جَعَلَ } : عطف على { خَلَقَ } داخل في حيز الصلة ، و { سواء } : مَن نَصَبَه فمصدر أي : استوت سواء . ومَن جَرَّه فصفة لأيام ، ومَن رفعه فخبر هي سواء . و { للسائلين } : متعلق بقدّر ، أو : بمحذوف ، أي : هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض . يقول الحق جلّ جلاله : { قل أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خلقَ الأرضَ في يومين } وهما الأحد والاثنين ، تعليماً للتأني ، ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل . { وتجعلون له أنداداً } شركاء وأشباهاً . والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد ، فضلاً عن التعدُّد ، وكيف يكون الحادث المعدوم ندّاً للقديم ؟ ! { ذلك } الذي خلق ما سبق . وما في الإشارة من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه لبُعد منزلته في العظمة ، أي : ذلك العظيم الشأن هو { ربُّ العالمين } أي : خالق جميع الموجودات ومُربِّيها ، فكيف يتصور أن يكون أخس الخلق نِدّاً له ؟ ! { وجعل فيها رواسي } جبالاً ثوابت كائنة { من فوقها } ، وإنما اختار إرساءها من فوق الأرض لتكون منافع الجبال مُعرَضة لأهلها ، ويظهر للناظرين ما فيها من مراصد الاعبتار ، ومطارح الأفكار ، فإن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، كلها ممسَكة بقدرة الله عزّ وجل . { وباركَ فيها } أي : قدّر بأن يكثر خيرها بما يخلق فيها من منافع ، ويجعل فيها من المصالح ، وما ينبت فيها من الطيبات والأطعمة وأصناف النعم . { وقدّر فيها أقواتَها } أي : حكم أن يوجد فيها لأهلها ما يحتاجون إليه من الأقوات المختلفة المناسبة لهم على مقدار مُعين ، تقتضيه الحكمة والمشيئة ، وما يصلح بمعايشهم من الثمار والأنهار والأشجار ، وجعل الأقوات مختلفة في الطعم والصورة والمقدار ، وقيل : خصابها التي قسمها في البلاد . جعل ذلك { في أربعةِ أيام } أي : تتمة أربعة أيام ، يومين للخلق ، ويومين لتقدير الأقوات ، كما تقول : سِرت إلى البصرة في عشرة ، وإلى الكوفة في خمسة عشر ، أي : في تتمة خمسة عشر ، ولو أجري الكلام على ظاهرة لكانت ثمانية أيام يومين للخلق وأربعة للتقدير ، ويومين لخلق السماء ، وهو مناقض لقوله : { فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ الأعراف : 54 ] . وقوله : { سواء } راجع للأربعة ، أي : في أربعة أيام مستويات تامات ، أو : استوت سواء { للسائلين } أي : قدَّر فيها الأقوات للطالبين لها والمحتاجين إليها ، لأن كلاًّ يطلب القوت ويسأله ، أو هذا الحصر في هذه الأيام لأجل مَن سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها ؟ { ثم استوى إِلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طَوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين } ، الاستواء مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد ، تقول العرب : فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا ، يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني ، أو قصد وانتهى . فالاستواء إذا عدي بـ " إلى " فهو بمعنى الانتهاء إليه بالذات أو بالتدبير ، وإذا عدّي بـ " على " فبمعنى الاستعلاء ، ويفهم منه أن خلق السماء بعد الأرض ، وهو كذلك ، وأما دحو الأرض وتقدير أقواتها فمؤخر عن السماء ، كما صرح في قوله : { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ } [ النازعات : 30 ] ، والترتيب في الخارج : أنه خلق الأرض ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض في يومين ، فـ " ثم " للتفاوت بين الخلقين لا للترتيب ، أو : للتفاوت في المرتبة ، ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، كقول القائل : @ إِنْ مَنْ ساد ثم ساد أبوه ثم [ قد ] ساد بعد ذلك جَدُّه @@ وفي بعض الأحاديث : " إن الله خلق الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعُمران والخراب ، فتلك أربعة أيام ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة " وهي الساعة التي تقوم فيها الساعة . قاله النسفي ، وفي حديث مسلم ما يخالفه . قال ابن عباس رضي الله عنه : أول ما خلق الله أي : بعد العرش جوهرة طُولها وعرضها ألف سنة ، فنظر إليها بالهيبة ، فذابت وصارت ماء ، فكان العرش على الماء ، فاضطرب الماء ، فثار منه دخان ، فارتفع إلى الجو ، واجتمع زيد ، فقام فوق الماء ، فجعل الزبد أرضاً ، ثم فتقها سبعاً ، والدخان سماء ، فسوّاهن سبع سموات . ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان طوعاً أو كرهاً وامتثالهما أنه أراد أن يُكوّنهما ، فلم يمتنعا عليه ، ووجدتَا كما أراد ، وكانتا في ذلك كالمأمور والمطيع ، وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان ، مع أن الأرض مخلوقة قبل السماء بيومين لأن المعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، أي : ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائتي يا سماء مبنية سقفاً لهم ، ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع . وقوله : { طوعاً أو كَرهاً } لبيان تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما عن قدرته مُحال كما تقول لمَن تحت يدك : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، طوعاً أو كرهاً . وقال ابن عطية : الأمر بالإتيان بعد اختراعهما ، قال : وهنا حذف ، أي : ثم استوى إلى السماء فأوجدها ، وأتقنها ، وأكمل أمرها ، وحينئذ قال لها وللأرض : ائتيا لأمري وإرادتي فيكما ، والمراد : تنجيزهما لما أراده منهما ، وما قدر من أعمالهما . هـ . حُكي أن بعض الأنبياء قال : يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما : ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك ، ما كنت صانعاً بهما ؟ قال : كنتُ آمر دابة من دوابي فتبتلعهما ، قال : وأين تلك الدابة ؟ قال : في مرج من مروجي ، قال : وأين ذلك المرج ؟ قال : في علم من علومي . وانتصاب { طوعاً أو كرهاً } على الحال ، أي : طائعين أو مكرهين . ولم يقل " طائعتين " لأن المراد الجنس ، أي : السموات والأرضين ، وجمع جمع العقلاء لوصفهما بالطوع والكره ، اللذين من وصف العقلاء ، وقال : طائعين في موضع طائعات تغليباً للتذكير لشرفه ، كقوله : { سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] . { فقضاهنّ سبعَ سماواتٍ } أي : فأحكم خلقهن ، وأتقن أمرهن سبعاً ، حسبما تقتضيه الحكمة ، فالضمير راجع إلى السماء ، لأنه جنس ، يجوز أن يكون الضمير مبهماً مفسراً بقوله : { سبع سماوات } ، فينتصب سبع على الأول حالاً ، وعلى الثاني تمييزاً . حصل ذلك القضاء { في يومين } الخميس والجمعة ، أي : في وقتين قدر يومين ، فكان المجموع ستة أيام ، { وأَوحى في كلِّ سماءٍ أمرها } أي : أوحى إلى ساكنها وعُمّارها من الملائكة في كل سماء ما شاء الله من الأمور ، التي تليق بهم ، كالخدمة وأنواع العبادة ، وإلى السماء في نفسها ما شاء الله من الأمور التي بها قوامها وصلاحها . { وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح } كالشمس والقمر والنجوم ، وهي زينة السماء الدنيا ، سواء كانت فيها أو فيما فوقها لأنها تُرى متلألأة عليها كأنها فيها ، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بأمرها ، { وحفظاً } أي : حفظناها حفظاً من المسترقة ، أو من الآفات ، فهو مصدر لمحذوف ، وقيل : مفعول لأجله على المعنى ، أي : وجعلنا المصابيح للزينة والحفظ . { ذلك تقديرُ العزيز العليم } أي : ذلك الذي ذكر تفصيله تقدير البالغ في القدرة والعلم ، أو : الغالب العليم بمواقع الأمور . الإشارة : خلق الحق تعالى أرض النفوس محلاًّ للعبودية ، وأرساها بجبال العقل ، لئلا تميل إلى بحر الهوى ، وبارك فيها ، بأن جعل فيها صالحين وأبراراً ، وعباداً وزهاداً ، وعُلماء أتقياء ، وقدّر لها أقواتها الحسية والمعنوية ، فجعل الحسية سواء للسائلين ، أي : مستوية لا يزيد بالطلب ولا بالتعب ، ولا ينقص ، ففيه تأديب لمَن لم يرضَ بقسمته ، والأرزاق المعنوية : أرزاق القلوب من اليقين والمعرفة ، يزيد بالطلب والتعب ، وينقص بنقصانه ، حكمة من الحكيم العليم ، ثم استوى إلى سماء الأرواح ، أي : قصدها بالدعاء إليه ، وهي لطائف ، فقال لها ولأرض النفوس : ائتيا إلى حضرتي ، طوعاً أو كرهاً ، قالتا : أتينا طائعين ، فقضاهن سبع طبقات ، وهي دوائر الأولياء ، دائرة الغوث ، ثم دائرة الأقطاب ، ثم الأوتاد ، ثم النقباء ، ثم النجباء ، ثم الأبرار ، ثم الصالحين . وأوحى في كل سماء ، أي : في كل دائرة ما يليق بها من العبادة ، فمنهم مَن عبادته الشهود والعيان ، ومنهم مَن عبادته الفكرة ، ومنهم الركوع والسجود ، ومنهم التلاوة والذكر … إلى غير ذلك من أنواع الأعمال . قال القشيري : وجعل نفوسَ العابدين ، أرضاً لطاعته وعبادته ، وجعل قلوبهم فَلَكاً لنجوم علمه ، وشموس معرفته ، فأوتاد النفوس الخوفُ والرجاءُ ، والرغبةُ والرهبة ، وفي القلوب ضياءُ العرفان ، وشموس التوحيد ، ونجوم العلوم والعقول ، والنفوس والقلوب ، بيده يُصَرِّفُها على ما أراد من أحكامه . وقال في قوله : { وجعل فيها رواسي من فوقها } : الجبالُ أوتادُ الأرض ، في الصورة ، والأولياءُ رواسي الأرض في الحقيقة ، بهم تنزل البركة والأمطار ، وبهم يُدفع البلاء . ثم قال : قوله تعالى : { وزيَّنا السماء الدنيا بمصابيح } وزيَّن وجه الأرض بمصابيح ، وهي قلوب الأحباب ، فأهلُ السماء إذا نظروا إلى قلوب أولياء الله بالليل ، فذلك متنزهُهُم ، كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء تأنّسوا برؤية الكواكب . هـ . ثم هدّد أهل الكفر ، فقال : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } .