Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 10-12)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { وما اختلفتمْ فيه من شيءٍ فحُكمه إِلى الله } ، حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، بدليل قوله : { ذلكم اللهُ ربي } أي : ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين ، من أمور الدين ، واختلفتم أنتم وهم ، فحُكم ذلك المختلف فيه راجع إلى الله ، ومُفوض إليه ، وهو إثابةُ المحقّين فيه ، ومعاقبة المبطلين . والمختار العموم ، أي : وما اختلفتم فيه أيها الناس من أمور الدين ، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع ، فحُكم ذلك إلى الله ، وقد قال في آية أخرى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] . فكل ما اختلف فيه يُردّ إلى كتاب الله ، ثم إلى سنّة رسول الله ، ثم إلى الإجماع ، ثم القياس ، فهذه هي قواعد الشريعة ، وعليها بُنيت الأحكام ، فمَن خرج عنها فهو مبطل ، ففي كتاب الله ، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غُنية ، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس . وقيل : ما اختلفتم فيه من العلوم ، التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم . ثم قال : { ذلكم اللهُ ربي } أي : ذلكم العظيم الشأن الله مالكي ومدبر أمري ، { عليه توكلتُ } في جميع أموري ، لا على غيره ، { وإِليه أُنيبُ } أرجع في كل ما يعرض لي ، لا إلى أحد سواه . وحيث كان التوكُّل أمراً واحداً مستمراً ، والإنابة متعددة ، متجددة بحسب تجدُّد مؤداها ، أُوثر في الأول صيغة الماضي ، والثاني صيغة المضارع . { فاطرُ السماواتِ والأرضِ } خالقهما ومظهرهما ، وهو خبر ثان لذلكم ، أو عن مضمر ، { جعل لكم من أنفسكم } من جنسكم { أزواجاً } نساء { ومن الأنعام أزواجاً } أي : وجعل للأنعام من جنسها أزواجاً ، أو : خلق لكم من الأنعام أصنافاً ذكوراً وإناثاً ، { يذرؤكم فيه } أي : يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع ، من : الذرء ، وهو البث ، فجعل الناس والأنعام أزواجاً ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، واختير لفظ " فيه " على " به " لأنه جَعَل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير . والضمير في " يذرؤكم " يرجع إلى المخاطَبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم . وقال الهروي : { يذرؤكم فيه } أي : يكثّركم بالتزويج ، كأنه قال : يذرؤكم به . هـ . وقال ابن عطية : لفظة " ذرأ " تزيد على لفظة " خلق " معنى آخر ، ليس في خلق ، وهو توالي طبقاته على مرّ الزمان ، وقوله : " فيه " الضمير عائد على الجعل . وقال القتبي : الضمير للتزويج . هـ . { ليس كمثله شيءٌ } أي : ليس مثله شيء في شأن من الشؤون ، التي من جملتها هذا التدبير البديع . قيل : إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة . قال ابن عطية : الكاف مؤكدة للتشبيه ، فنفي التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمر ، فإذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو ، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وعلى هذا المعنى شواهد كثيرة . هـ . قال النسفي : وقيل : المثل زائد ، والتقدير : ليس كهو شيء ، كقوله تعالى : { فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ } [ البقرة : 137 ] ، وهذا لأن المراد نفي المثليّة ، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل . هـ . والجواب ما تقدّم لابن عطية . وقيل : الآية جرت على طريق الكناية ، كقولهم : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود ، أي : أنت لا تبخل لأنه إذا نفي البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى . ثم قال تعالى : { وهو السميعُ البصيرُ } سميع لجميع المسموعات بلا آذان ، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان . وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له ، كما لا مثل له ، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا . { له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ } مفاتيح خزائنها ، { يبسطُ الرزقَ لمَن يشاءُ } أي : يوسعه { ويَقْدرُ } أي : يُضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحِكَم البالغة . { إِنه بكل شيءٍ عليمٌ } لا يخفى عليه شيء ، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل ، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة . قال ابن عرفة : تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال ، فالقدرة في قوله : { فاطر السماوات والأرض } والوحدانية في قوله : { ليس كمثله شيء } والإرادة في قوله : { يبسط الرزق لمَن يشاء } لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة . والعلم في قوله : { إنه بكل شيء عليم } ، والكلام في قوله : { شرع لكم من الدين } لأن المراد به الحكم الشرعي ، وهو خطاب الله تعالى المعلّق بأفعال المكلفين ، وخطابه كلامه . هـ . زاد في الحاشية الفاسية : يعني وكل وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة ، مع أنه قال : { يُحيي الموتى } والإحياء إنما يكون من الحي . هـ . الإشارة : قوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء } قال القشيري : ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره ، وانتظروا ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره . ويقال : إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم ، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم ، أو بالشقاوة جرى اسمُكم ، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله ، واشتغلوا في الوقت بأمر الله ، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم . هـ . وقوله : { فاطرُ السماوات والأرض } أي : شققهما من أسرار الغيب ، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات . جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل ، بعضكم من بعض ، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء . وقال بعض العارفين : ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان . فقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } أي : ليس معه شيء حتى يشبهه . وقال الورتجبي عن الواسطي : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة ، والعبارة منقوضة لأن الحق لا يُنعت على أقداره لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت ، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق . وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم ، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم ، فهو مصروف إليكم ، ومردود عليكم ، محدث مصنوع مثلكم لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة ، أو يدركها وهم ، أو يحيط بها علم ، كلا ، كيف يحيط به علم ، وقد اتفق فيه الأضداد ، بقوله : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } [ الحديد : 3 ] ؟ أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ ؟ كلاّ ، قصرت عنه العبارة ، وخرست الألسن لقوله : { ليس كمثله شيء } . هـ . ولما عَرَّف بذاته وصفاته ، ذكر شرائعه لعباده ، فقال : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } .