Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 13-14)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { شَرَعَ } أي : بيَّن وأظهر { لكم من الذين ما وَصَّى به نوحاً } ومَن بعده مِن أرباب الشرائع ، وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم السلام ، وأمَرَهم به أمراً مؤكداً . وفي بيان نسبته إلى المذكورين تنبيه على كونه ديناً قديماً ، أجمع عليه الرسل ، على أن تخصيصهم بالذكر لِمَا ذكر من علو شأنهم ، ولاستمالة قلوب الكفرة إليه لاتفاق الكل على نبوة جُلهم . قيل : خصّ نوحاً وإبراهيم بالوصية ، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالوحي لأن متعلق الوصية غير الموصي ، بل الموصى إليه به ، ومتعلق الوحي : الموحى إليه بذاته ، ولمَّا كان صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء جعل المُلقى إليه وحياً ، ولمَّا كان ما قبله من الأنبياء متبعين له ، ومنذِرين بشريعته ، أنه سيظهر آخر الزمان نبي اسمه " محمد " ، كان ذلك وصية منهم لقومهم على الإيمان به . انظر ابن عرفة . قلت : والظاهر أنه تفنُّن ، وفرار من تكرار لفظ الوحي إذ الموحى به هو قوله : { أنْ أقيموا الدِّين } وهو الذي أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ـ . وقال أبو السعود : والتعبير عن ذلك عند نسبته صلى الله عليه وسلم بـ " الذي " لتفخيم شأنه من تلك الحيثية ، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة يعني في صدر السورة من قوله : { كذلك يُوحي إليك … } وفي آخرها من قوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } ، ولِما في الإيحاء من التصريح برسالته صلى الله عليه وسلم القامع لإنكار الكفرة . والالتفات إلى نون العظمة إظهاراً لكمال الاعتناء بإيحائه ، وهو السر في تقديمه على ما قبله مع تقدمه عليه زماناً . وتقديم وصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً أي : فلا ينبغي إنكاره وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف ، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام . هـ . ثم فسَّر ما وصاهم به فقال : { أنْ أقيموا الدينَ } أي : دين الإسلام ، الذي هو توحيد الله تعالى ، وطاعته ، والإيمان بكتبه ورسله ، وبيوم الجزاء ، وسائر أركان الإيمان . والمراد بإقامته : تعليل أركانه ، وحفظه من أن يقع فيه زيغ ، والمواظبة عليه ، والتشمير في القيام به . وموضع " أن أقيموا " إما : نصب ، بدل من مفعول " شرع " ، أو : رفع ، خبر جواب عن سؤال مقدَّر ، كأن قائلاً قال : وما ذاك ؟ فقال : هو إقامة الدين . { ولا تتفرقوا فيه } ولا تختلفوا في الدين ، فالجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، والمراد : الاختلاف في الأصول ، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار ، كما ينطق به قوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] . { كَبُرَ على المشركين } أي : عظم وشقّ عليهم { ما تدعوهم إِليه } من التوحيد ، ورفض عبادة الأصنام ، الذي هو إقامة الدين ، { اللهُ يجتبي } أي : يجلب ويجمع { إِليه مَن يشاء } بالتوفيق والتسديد ، { ويهدي إِليه مَن يُنيبُ } يُقبل على طاعته . فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب ، والإنابة إلى توفيق الطاعة في الظاهر . { وما تَفرقوا } أي : أهل الكتاب من بعد أنبيائهم { إِلا مِن بعد ما جاءهم العلمُ } إلا بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال ، وأمر متوعّد عليه على ألسنة الرسل ، { بغياً بينهم } حسداً ، وطلباً للرئاسة ، والاستطالة بغير حق ، أو : ما تفرّقوا في الدين الذي دُعوا إليه ، وهو الإسلام ، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم إلا مِن بعد ما جاءهم العلم بحقيقته لما يشهدونه في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن من دلائل الحقيّة ، حسبما وجدوه في كتبهم ، أو : العلم بمبعثه صلى الله عليه وسلم . { ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك } ، وهي العِدَة بتأخير العقوبة { إِلى أجلٍ مسمى } هو يوم القيامة { لقُضي بينهم } أي : لوقع القضاء بينهم ، وأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترنوا . { وإِن الذين أُورثوا الكتاب مِن بعدهم } وهم المشركون { لفي شك منه } أي : القرآن { مُريبٍ } مُوقع في الريبة . وهو بيان لكيفية كفر المشركين ، بعد بيان كيفية كفر أهل الكتاب ، أي : وإن المشركين الذي أُوتوا القرآن من بعدهم ، أي : من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ، لفي شك من القرآن مريب . والظاهر : أن التفرُّق المذكور هنا إنما هو في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم لأن سياق النظم إنما هو لبيان أحوال هذه الأمة ، وإنما ذكر مَن ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم ، أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيداً لوجوب إقامته ، وتشديداً للزجر عن التفرُّق والاختلاف . فالتعرُّض لبيان تفرُّق أممهم عنه ربما يُوهم الإخلال بذلك المرام . قاله أبو السعود . الإشارة : الذي شرع الله من الدين لأقوياء عباده ، ووصّى به خواص أنبيائه : أن يشاهدوه وحده في الباطن ، ويقوموا برسم العبودية في الظاهر ، وهذا هو إقامة الدين ، الذي يجب الاتفاق عليه ، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس ، وحط الرؤوس ، وبذل الفلوس . ولذلك كَبُرَ على أهل الفَرْق ، قال تعالى : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } ، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم ، وسلك طريقه اجتباه ربه لحضرته ، بعد أن هداه لسلوك طريقته . قال تعالى { الله يجتبي إليه مَن يشاء ويهدي إليه مَن ينيب } فالاجتباء جذب ، والإنابة سلوك ، الاجتباء للحقيقة ، والإنابة للشريعة والطريقة . وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماماً بأمره لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية ، والإنابة هداية ينالها كل مَن تمسّك بالشريعة . وحقيقة الجذب : شهود الخلق بلا خلق ، وحقيقة السلوك المحض : شهود الخلق بلا حق ، وحقيقة الجذب في السلوك : شهود الحق في قوالب الخلق ، أو : شهود الخلق في مظهر الحق . فالناس ثلاثة : مجذوبون فقط ، سالكون فقط ، مجذبون سالكون ، فالأولان لا يصلحان للتربية ، والثالث هو الذي يصلح للتربية ، وهو الذي يتقدمه السلوك ، ثم يختطف إلى الحضرة في مقام الفناء ، ثم يرجع إلى السلوك في مقام البقاء . وما وقع من التفرُّق والاختلاف في جانب النبوة ، يقع في جانب الولاية ، سُنَّة ماضية ، فيجب على الداعي إلى الله أن يجهد نفسه في الدعاء إليه ، ولا يبالي باختلافهم ، كما قال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } .