Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 17-19)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { اللهُ الذي أنزل الكتابَ } القرآن ، أو : جنس الكتاب ، { بالحق } ملتبساً بالحق في أحكامه وأخباره ، أو : بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام ، { والميزانَ } وأنزل العدل والتسوية بين الناس ، أي : أنزله في كتبه المنزلة ، وأمر به ، أو : الشرع الذي يُوزن به الحقوق ، ويساوي بين الناس . وقيل : هو عين الميزان ، أي : الآلة ، أنزله في زمن نوح عليه السلام . { وما يُدريكَ } أيَّ شيء يجعلك عالماً { لعلَّ الساعةَ } التي أخبر بها الكتاب الناطق بالحق { قريبٌ } مجيئها . وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر ، وقيل : وجه المناسبة في ذكر الساعة مع إنزال الكتاب : أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية ، والعمل بالشرائع ، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ، ووزن أعمالكم . { يستعجلُ بها الذين لا يؤمنون بها } استعجال إنكار واستهزاء ، { والذين آمنوا مُشْفِقُون } خائفون { منها } وجلون لهولها ، { ويعلمون أنها الحقُّ } الكائن لا محالة ، { أَلا إِنَّ الذين يُمارون في الساعة } يجادلون فيها ، من : المرية ، أو : المماراة والملاحاة ، أو : من : مريت الناقة : إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كُلاًّ من المتجادلين يُخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة . { لفي ضلالٍ بعيدٍ } عن الحق لأن قيام الساعة أظهر من كل ظاهر ، وقد تواترت الشرائع على وقوعها ، والعقول تشهد أنه لا بد من دار الجزاء ، وإلا كان وجود هذا العالم عبثاً . { اللهُ لطيف بعباده } أي : برٌّ بهم في إيصال المنافع ودفع المضار ، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدي الأفكار والظنون . وقيل : هو مَن لطُف بالغوامض علمه ، وعظُم عن الجرائم حلمه ، أو : مَن ينشر المناقب ويستر المثالب ، أو : يعفو عمَّن يهفو ، أو : مَن يعطي العبد فوق الكفاية ، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة . وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : الظاهر حمل العباد على ما اصطفاه ، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف ، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق ، ومن ذلك : حمايتهم من الدنيا ، ومما يطغى من الرزق ، وعليه ينزل قوله : { يرزق مَن يشاء } . هـ . أي : يرزق على حسب مشيئته ، المبنية على الحِكَم البالغة . وفي الحديث : " إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك " . وأما قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] فهو وعد لجميع الخلق ، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا ، فلا منافاة بينهما ، خلافاً لابن جزي لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد ، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها . انظر الحاشية . { وهو القويُّ } الباهر القدرة ، الغالب على كل شيء ، { العزيزُ } المنيع الذي لا يُغْلَب . الإشارة : الميزان هو العقل إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها ، نافعها وضارها . فالعقول متفاوتة كالموازين ، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع ، كالذهب ، والإكسير ، والفضة ، والطيب الرفيع ، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة ، دون الخشينة ، كميزان العطار وشبهه ، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة ، كميزان الغزالين والحاكة ، وبعضها لا يصلح إلا للخشين ، كالفحم وشبه ، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير ، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين ، فالأول عقول العارفين ، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، لا يصلح لغيرها ، والثاني للعباد ، والزهّاد ، والعلماء الصالحين ، والثالث للمتجمدين من العلماء ، والرابع لعامة المؤمنين ، والخامس للفجار والكفار ، وفيهم نزل : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها … } الآية ، وما قبله هو قوله : { والذين آمنوا مشفقون منها } . وقوله تعالى : { اللهُ لطيف بعباده } ، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق ، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره ، فمِن لطفه سبحانه بخلقه : أنه أعطاهم فوق الكفاية ، وكلَّفهم دون الطاقة . ومِن لطفه سبحانه : تسهيله الأرزاق ، وتيسير الارتفاق ، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه ، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية لتحقق بغاية عجزه ، وتيقن بوجود لطفه ، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب ، وملبوس ، ومطعوم . ومن لطفه سبحانه : توفيق الطاعات ، وتسهيل العبادات ، وتيسير الموافقات . ومن لطفه سبحانه : حفظ التوحيد في القلوب ، واطلاعها على مكاشفة الغيوب ، وصيانة العقائد عن الارتياب ، وسلامة القلوب عن الاضطراب . ومن لطفه سبحانه : إيهام العاقبة لئلا يتكلموا أو ييأسوا . ومن لطفه سبحانه بالعبد : إخفاء أجله عليه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله . ومن لطفه سبحانه بخواصه : ستر عيوبهم ، ومحو ذنوبهم ، حتى وصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه ، فكشف لهم عن أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، فشاهدوه جهراً ، وعبدوه شكراً . وقوله تعالى : { يرزق مَن يشاء } إما رزق الأرواح ، أو رزق الأشباح ، وإلى هذا القسمين أشار قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ } .