Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 36-42)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : " مَن يعش " : شرط وجواب . وحكي أن أبا عبد الله بن مرزوق دخل على ابن عرفة ، فحضر مجلسه ، ولم يعرفه أحد ، فوجده يُفسر هذه الآية : { ومَن يعش عن ذكر الرحمن } ، فكان أول ما افتتح به - يعني ابن مرزوق - أن قال : وهل يصح أن تكون " مَن " هنا موصولة ؟ فقال ابن عرفة : وكيف ، وقد جزمت ؟ فقال ابن مرزوق : جزمت تشبيهاً بالشرطية ، فقال ابن عرفة : إنما يقدم على هذا بنص من إمام ، أو شاهد من كلام العرب ، فقال : أما النص فقال ابن مالك في التسهيل : وقد يحزم مسبب عن صلة الذي ، تشبيهاً بجواب الشرط ، وأما الشاهد فقوله : @ فلا تَحْفِرَنْ بِئراً تُريدُ أخاً بها فإنك فيها أنتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ كذاك الذي يَبْغِي عَلَى ظالماً تُصِبْهُ على رَغْمِ عَوَاقِبُ ما صَنَعْ @@ فقال ابن عرفة : فأنت إذاً أبو عبد الله بن مرزوق ؟ فقال : نعم ، فحرّب به . وقال . والله ما ظلمناك . هـ . وقرأ ابن عباس : " يعشَ " - بفتح الشين ، أي : يَعْم ، من : عشى يعشى . وقُرئ : " يعشو " على أن " من " موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وإلا جزمت كما تقدم . قلتُ : والذي يظهر من كلام التسهيل أن الموصول المضمَن معنى الشرط إنما يجزم الجواب لا الشرط ، فتأمله ، مع كلام ابن مرزوق . والشاهد الذي أتى به إنما فيه جزم الجواب لا الشرط ، فلا يصح ما قاله ابن مرزوق باعتبار جزم لفظ الشرط . والله تعالى أعلم . يقول الحق جلّ جلاله : { ومَن يَعْشُ } أي : يتعَامَ ، أو : يعْم . والفرق بين القراءتين أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل : عشى يعشَى ، وإذا ضعف بصره بلا آفة قيل : عشَى يعشو . والمعنى : ومَن يعرض { عن ذكر الرحمن } وهو القرآن ، لفرط اشتغاله بزهرة الدنيا ، وانهماكه في الحظوظ الفانية ، فلم يلتفت إليه ، ولم يعرف أنه حق - على قراءة الفتح - أو : عرف أنه حق وتعامى عنه ، تجاهلاً ، على قراءة الضم ، { نُقَيّضْ له شيطاناً فهو له قرينُ } ، قال ابن عباس : نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة ، لا يفارقه ، ولا يزال يوسوسه ويغويه . وفيه إشارة إلى أن مَن دام عليه لم يغوه الشيطان . وإضافته إلى " الرحمن " للإيذان بأن نزوله رحمة للعالمين ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي : ما ذكره الرحمن وأوحى به في كتابه ، وقال ابن عطية : ما ذكّر الله به عباده من المواعظ . ويحتمل أن يريد مطلق الذكر ، أي : ومَن يغفل عن ذكر الله نُسلط عليه شيطاناً ، عقوبة على الغفلة ، فإذا ذكر الله تباعد عنه . { وإِنهم } أي : الشياطين ، الذي قيّض كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو ، { ليصدُّونهم } ليمنعون العاشين { عن السبيل } عن سبيل الهدى الذي جاء به القرآن ، { ويحسبون أنهم مهتدون } أي : أنفسهم مهتدون ، أو : ويحسب العاشُون أن الشياطين مهتدون ، فلذلك قلَّدوهم ، فمدار جمع الضمير اعتبار معنى " مَن " كما أن مدار إفراده فيما سبق اعتبار لفظها . وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجديدي ، لقوله : { حتى إِذا جاءنا } فإن " حتى " تقتضي أن تكون غاية لأمر ممتد ، أي : يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصد والحسبان الباطل ، حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة . ومَن قرأ بالتثنية ، فالمراد العاشي وقرينه . قال مخاطباً لقرينه : { يا ليتَ بيني وبينك } في الدنيا { بُعد المشرقين } أي : بُعد المشرق والمغرب ، أي : تباعد كل منهما من صاحبه ، فغلب المشرق على المغرب ، كما قيل : القَمَران والعُمرَان ، وأضيف البُعد إليهما ، { فبئس القرينُ } أنت . قال تعالى : { ولن ينفعكم اليومَ } أي : يوم القيامة { إِذ ظلمتمْ } أي : حين صحّ وتبيّن ظلمكم وكفركم ، ولم تبقَ لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين . و " إذ " : بدل من اليوم . وقوله : { أنكم في العذاب مشتركون } : فاعل ينفع ، أي : لن ينفعكم يوم القيامة اشتراككم في العذاب ، كما كان في الدنيا يُهون عليكم المصيبة اشتراككم فيها ، لتعاونكم في تحمُّل أعبائها وتقسيمكم لعنائها ، ولذلك قيل : المصيبة إذا عمّت هانت ، وإذا خصت هالت ، وفي ذلك تقول الخنساء : @ ولولا كثرةُ الباكين حَوْلي على إخوانهم لقتلتُ نفسي ولا يبكون مثلَ أخي ولكنْ أُعزّي النفسَ عنه بالتأسِّي @@ أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم ، ولا يُروّحهم ، لأن بكلٍّ منهم ما لا تبلغه طاقة ، وقد ورد أنهم يكونون في توابيت من نار ، لا يرى أحد صاحبَه ، بل يظن أنه وحده فيها . وقيل : الفاعر مضمر ، أي : ولن ينفعكم هذا التمني ، أو هذا الاعتذار لأنكم في العذاب مشتركون لاشتراككم في سببه ، وهو الكفر ، ويؤيده : قراءة مَن قرأ : " إنكم " بالكسر . وكان صلى الله عليه وسلم يُبالغ في المجاهدة في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون إلا غيّاً وتعامياً عما يشهدونه من شواهد النبوة ، وتصامماً عما يسمعونه من القرآن ، فأنزل الله تعالى : { أفأنت تُسْمِعُ الصمَّ أو تهدي العُمْيَ } ، وهو إنكار وتعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم ، وقد تمرّنوا في الكفر ، واستغرقوا في الضلال ، حيث صار ما بهم من العشي عَماً مقروناً بالصمم ، أي : أفأنت تقدر أن تُسمع مَن فقد سمع القبول ، أو تهدي مَن فقد بصر الاستبصار . { ومَن كان في ضلالٍ مبين } أي : ومَن كان في علم الله أنه يموت على الضلال . ومدار الإنكار هو التمكُّن والاستقرار في الضلال المفرط ، بحيث لا ارعواء له منه ، لا توهم القصور من قبل الهَادي ، ففيه رمز في أنه لا يقدر على ذلك إلا الله . { فإما نَذْهَبَنَّ بك } أي : فإن قبضناك قبل أن ننصرك على أعدائك ، ونشفي صدور المؤمنين منهم ، { فإنا منهم منتقمون } أشد الانتقام في الآخرة . { أو نُرِيَنَّكَ } العذاب { الذي وعدناهم } قبل أن نتوفينك ، كما وقع بهم يوم بدر ، { فإِنا عليهم مقتدرون } العذاب { الذي وعدناهم } قبل أن نتوفينك ، كما وقع بهم يوم بدر ، { فإِنا عليهم مقتدرون } بحيث لا ناصر لهم من حلول نقمتنا وقهرنا . و " إما " : شرط دخلت " ما " على " إن " توكيداً للشرط ، وزاد التوكيد نون الثقيلة . الإشارة : كل مَن غفل عن ذكر الله تسلّط الشيطان على قلبه بالوسوسة والخواطر الردية ، وقد ورد في الحديث : " إن قلب ابن آدم ملك وشيطان ، فإذا ذكر الله قرب الملك منه وانخنس الشيطان ، وإذا غفل عن ذكر الشيطان قرب منه ، فلا يزال يوسوسه ويمنيه حتى يغفله عن الله " ولا شك أن الذكر الذي يصرف الشيطان عن القلب إنما هو الذكر القلبي لا اللساني ، فكم من ذاكر بلسانه وقلبه مشغول بهواه ، فذكر اللسان نتائجة الأجور ، وذكر القلوب نتائجة الحضور ورفع الستور ، وشتان بين مَن همّه الحور والقصور ، ومَن همّه الحضور ورفع الستور ، هذا من عامة أهل اليمين ، وهذا من خاصة المقربين ، فإذا أردت يا أخي ذكر القلوب ، ولمعان أسرار الغيوب ، فاصحب الرجالَ ، حتى ينقلوك من عالم الطبيعة إلى عالم الروحانية ، وإلا بقيت في عالم الأشباح . قال القشيري : مَن لم يعرف قَدْرَ الخلوة مع اللّهِ ، فحادَ عن ذكره وأخلدَ إلى الخواطر الرديَّة ، قيَّض اللّهُ له مَن يشغله عن الله - وهذا جزاء مَن تَرك الأدب في الخلوة . وإذا اشتغل العبدُ في خلوته مع ربَّه ، وتعرَّض له مَن يشغله عن ربه ، صَرَفه الحق عنه بأي وجْهٍ كان … ويقال : أصعبُ الشياطين نَفْسُكَ ، والعبدُ إذا لم يَعرفْ قدر فراغ قلبه ، واتَّبَعَ شهوته ، وفتح ذلك البابَ علَى نَفْسه ، بقي في يد هواه أسيراً ، لا يكاد يتخلصُ منه إلا بعد مُدة . هـ . وقال في الإحياء : للشيطان جندان ند يطير ، وجند يسير ، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار ، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار . ثم قال : فتحقق أن الشيطان من المنظَرين ، فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك هم واحد ، وهو الله ، فيشتغل قلبك بالله وحده ، فلا يجد الملعون مجالاً فيك ، فعند ذلك تكون من عباد الله المخلّصين ، الداخلين في الاستثناء من سلطنته . ولا تظن أن يفرغ منه قلب فارغ من ذكر الله ، بل هو سيّال يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وسيلانه مثل الهواء في القدح ، إن أردت أن يخلو عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو غيره ، فقد طمعت في غير مطمع ، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه من الهواء لا محالة ، فكذلك القلب المشغول بتفكُّر مهم في الدين ، يخلو عن جولان الشيطان ، وإلا فمَن غفر عن الله ، ولو لحظة ، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ، وإلا فمَن غفل عن الله ، ولو لحظة ، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ، ولذلك سبحانه : { ومَن يعش عن ذكر الرحمن نُقيض له شيطاناً فهو له قرين } . هـ . المراد منه . وكل مَن عوّق الناس عن طريق الحق يصدق عليه قوله : { وإِنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } ، فإذا تحققت الحقائق ، وارتفع الغطاء ، وظهر الصواب من الخطأ ، قال للذي صدّه عن طريق القوم : يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين ، فيقول الحق جلّ جلاله : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم } حيث حرمتموها من الوصول إليّ أنكم من عذاب الحجاب مشتركون . ويُقال لمَن وعظ ودعا إلى الله ، فلم يُقبل منه : { أفأنت تُسمع الصُّم … } الآية . فإما نذهبنَّ بك بالموت ، فيقع الندم عليك ، أو نُرينك الذي وعدناهم من العز لك والنصر ، والانتقام ممن آذى أولياء الله ، فإنا عليهم مقتدرون . ثم أمر بالثبتوت في طريق الحق ، فقال : { فَٱسْتَمْسِكْ بِٱلَّذِيۤ أُوحِيَ إِلَيْكَ } .