Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 57-62)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ولما ضُرب ابنُ مريمَ مثلا } ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على قريش : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] الآية ، فغضبوا ، فقال ابن الزِّبَعْرى : يا محمد ! أخاصة لنا ولآلهتنا ، أم لجميع الأمم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم " ، فقالوا : ألست تزعم أن عيسى [ نبي ] ، يُثنى عليه وعلى أمّه خيراً ، وقد علمت أنَّ النصارى يعبدونهما ؟ وعزيز يُعبد ، والملائكة يُعبدون ، فإن كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا ، وضحكوا ، وسكت النبيُّ انتظاراً للوحي . وفي رواية : فقال لهم صلى الله عليه وسلم : " إنما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك " وقال لابن الزبعرى : " ما أجهلك بلغة قومك ، أَمَا فهمت أن " ما " لِما لا يعقل ، فهي خاصة بالأصنام " ، فأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى … } [ الأنبياء : 101 ] الآية . ونزلت هذه الآية . والمعنى : ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى { ابن مريم مثلاً } لآلهتهم ، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه { إِذا قومُك } قريش { منه } أي : من هذا المثل { يَصِدُّون } ترتفع لهم جلبة وضجيج ، فرحاً وضحكاً ، فهو من : الصديد ، وهو الجلبة ورفع الصوت ، ويؤيده : تعديته بمَن ، ولو كان من الصدود لقال : " عنه " ، وقرئ بالكسر والضم ، وقيل : هما لغتان ، كيعكِفُون ويعكُفُون ويعرِشون ويعرُشُون ، وقيل : بالكسر معناه : الصديد ، أي : الضجيج والضحك ، وبالضم معناه : الإعراض ، فيكون من الصدود ، أي : فهم من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق ، أي : يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض ، أو يزدادون . { وقالوا آلهتُنا خيرٌ أَمْ هو } يعني أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هيناً . أو : فإذا كان عيسى في النار ، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها . قال تعالى : { ما ضربوه لك إِلا جَدَلا } أي : ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام ، لا لطلب الحق حتى يذعونا له عند ظهوره ، { بل هم قوم خَصِمُونَ } أي : لُدّاً ، شِدَاد الخصومة ، مجبولون على اللجاج ، وذلك أن الآية إنما قصدت الأصنام ، بدليل التعبير بـ " ما " ، إلا أن ابن الزبعرى حدا عنه لمّا رأى كلام الله تعالى محتملاً لفظُه للعموم ، مع علمه بأن المراد به أصنامهم ، وجد للحيلة مساغاً ، فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله ، على طريق اللجاج والجدال والمكابرة ، وتوقَّح في ذلك ، فصمت عنه صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه . وقيل : لما سمعوا قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ … } [ آل عمران : 59 ] الآية ، قالوا : نحن أهدى من النصارى ، لأنهم عبدوا آدمياً ، ونحن نعبد الملائكة ، فنزلت . فقولهم : آلهتنا خير ، هو حينئذ تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه السلام لأن المراد بهم الملائكة . ومعنى : { ما ضربوه … } الخ : ما قالوا هذا القول إلا للجدال . وقيل : لما نزل : { إن مثل عيسى عند الله … } الآية ، قالوا : ما يريد محمد إلا أن نعبده كما عبد النصارى المسيح . ومعنى " يصدون " : يضجون ويسخرون ، والضمير على هذا في " أَم " هو لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وغرضهم ومرادهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مرادهم التنصُّل عما أنكر عليهم من قولهم : الملائكة بنات الله ، ومن عبادتهم لهم ، كأنهم قالوا : ما قلنا بدعاً من القول ، ولا فعلنا منكراً من الفعل ، فإنَّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله ، وعبدوه ، فنحن أرشد منهم قولاً وفعلاً ، حيث نسبنا له الملائكة ، وهم نسبوا إليه الأناسي . فقوله تعالى : { إن هو إِلا عبدٌ أنعمنا عليه } أي : ما عيسى إلا عبد ، كسائر العبيد ، أنعمنا عليه بالنبوة ، { وجعلناه مثلاً لبني إِسرائيل } أي : أمراً عجيباً ، حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة ، ففيه تنبيه على بطلان رفعه عن رتبة العبودية ، أي : قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليه بالنبوة ، وخصصناه ببعض الخواص البديعة ، بأن خلقناه على وجهٍ بديع ، وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه ، فأين هو من رتبة الربوبية حتى يتوهم أنه رضي بعبادته مع الله ؟ ومَن عبده فإنما عبد الشيطان . ثم قال تعالى : { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض } بدلاً منكم ، كذا قال الزجاج ، فـ " مِن " بمعنى البدل { يَخْلُفُون } أي : يخلفونكم في الأرض ، أي : لو نشاء لذهبنا بكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة يخلفونكم في الأرض ، فيكونون أطوع منك لله تعالى ، وقيل : { ولو نشاء } لقدرتنا على عجائب الأمور { لجعلنا منكم } بطريق التوالد ، وأنتم رجال ، من شأنكم الولادة - { ملائكة } كما خلقناهم بطريق الإبداع { في الأرض } مستقرين فيهم ، كما جعلناهم مستقرين في السماء ، يخلفونكم مثل أولادكم ، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم ، فكيف يستحقون المعبودية مع أنهم أجسام ، متولدون عن أجسام ، والمستحق للعبادة يتعالى عن ذلك ؟ ! { وإِنه } أي : عيسى عليه السلام { لَعِلْمٌ للساعة } أي : مما يعلم به مجيء الساعة عند نزوله . وقرأ ابن عباس " لَعَلَمٌ " بفتح اللام ، أي : وإن نزوله لَعَلَم للساعة ، أو : وإن وجوده بغير أب ، وإحياءه للموتى ، دليل على صحة البعث ، الذي هو معظم ما ينكرة الكفرة . وفي الحديث : إن عيسى عليه السلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة ، يقال لها : أَفِيق ، وهي عقبة بيت المقدس ، وعليه مُمَصَّرتان ، وشعر رأسه دهين ، وبيده حربة يقتل بها الدجال ، فيأتي بيت المقدس ، والناس في صلاة العصر ، والإمام يؤم بهم ، فيتأخر الإمام ، فيقدمه عيسى ، ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويخرب البيعَ والكنائس ، ويقتل النصارى إلا مَن آمن به وبمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : الضمير للقرآن لأن فيه الإعلام بالساعة ، { فلا تمْتَرُنَّ بها } فلا تشكنَّ فيها ، من المرْية ، وهو الشك ، { واتبعونِ } أي : اتبعوا هداي وشرائعي ، أو : رسولي : وقيل : هو قول نبينا صلى الله عليه وسلم مأموراً به من جهته تعالى : { هذا } أي : الذي أدعوكم إليه { صراط مستقيم } موصل إلى الحق . { ولا يَصُدَّنكم الشيطانُ } عن اتباعي { إِنه لكم عدو مبينٌ } بيِّن العداوة ، حيث أخرج آباكم من الجنة ، وعرضكم للبلية . الإشارة : الوعظ والتذكير لا تسري أنواره في القلوب إلا مع التسليم والتصديق ، والسكوت والاستماع ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنَّ على رؤوسهم الطير ، وأما إن دخل معه الجدال واللجاج ذهبت بركته ، ولم تسْر أنواره ، ولذلك قيل : مذهب الصوفية مبني على التسليم والتصديق ، ومذهب الفقهاء مبني على البحث والتفتيش ، لكن مع الإنصار ، وخفض الصوت ، وحسن السؤال من غير ملاججة ولا غضب . ثم ذكر بعثة عيسى ودعوته إلى الله ، فقال : { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } .