Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 9-14)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ولئن سألتهم } أي : المشركين { مَنْ خلق السماواتِ والأرضَ ليقولُنَّ خلقهن العزيزُ العليمُ } أي : ينسبون خلقها إلى مَن هذا وصفه في نفس الأمر لا أنهم يُعبِّرون عنه بهذا العنوان . واختار هذن الوصفين للإيذان بانفراده بالإبداع والاختراع والتدبير لأن العزة تُؤذن بالغلبة والاقتدار ، والعلم يؤذن بالتدبُّر والاختيار ، وليُرتب عليه ما ينسابه من الأوصاف ، وهو قوله : { الذي جعل لكم الأرض مهاداً } أي : موضع قرار كالمهد المعلق في الهواء ، { وجعل لكم فيها سُبُلاً } تسلكونها في أسفاركم { لعلكم تهتدون } أي : لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم ، أو : بالتدبُّر فيها إلى توحيد ربكم ، الذي هو المقصد الأصلي . { والذي نَزَّلَ من السماء ماء بِقَدَرِ } بمقدار يسلم معه العباد ، وتحتاج إليه البلاد ، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح ، { فأنشرنا به } أي : أحيينا بذلك الماء { بلدةً ميْتاً } خالياً عنه الماء والنبات . وقُرئ : " ميِّتاً " بالتشديد . وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد . والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره ، { كذلك تُخرجون } أي : مثل ذلك الإحياء ، الذي هو في الحقيقة : إخراج النبات من الأرض ، تُخرجون من قبوركم أحياء . وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشاء ، الذي هو إحياء الموتى ، وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لإن لشأن الإنبات ، وتهوين لأمر البعث ، لتقويم سَنَنِ الاستدلال ، وتوضيح منهاج القياس . وهذه الجُمل ، من قوله { الذي جعل … } استئناف منه تعالى ، وليست من مقول الكفار لأنهم يُنكرون الإخراج من القبول ، بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث ، وكذا قوله : { والذي خلق الأزواجَ كلها } ، أي : أصناف المخلوقات بحذافيرها ، على اختلاف أنواعها وألوانها . وقيل : الأزواج : ما كان مزدوجاً ، كالذكر والأنثى ، والفوق والتحت ، والأبيض والأسود ، والحلو والحامض ، وقيل : كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج . والفرد هو الله . { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } أي : ما تركبونه ، يقال : ركبوا في الفلك ، وركبوا الأنعام ، فَغُلِّبَ المتعدّي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة ، فقيل : تركبونه . { لتستووا على ظهوره } : ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفُلك والأنعام ، { ثم تذكروا نعمةَ ربكم إِذا استويتم عليه } تذكروها بقلوبكم ، معترفين بها بألسنتكم ، مستعظمين لها ، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم ، { وتقولوا سبحانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا } أي : ذلَّل لنا هذا المركوب ، متعجبين من ذلك { وما كُنا له مُقْرِنينَ } مطيقين . يقال : أقرن الشي : إذا أطاقه ، وأصله : وجده قرينه لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف إلا إذا ذلّله الله وسهّله ، { وإِنَّا إِلى ربنا لمنقلبون } أي : راجعون . وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا ، آخر مركبه منها ، وهو : الجنازة فيبني أموره في مسيره على تلك الملاحظة ، حتى لا يخطر بباله شيء من زينة الدنيا ، وملاهيها وأشغالها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان إذا وضع رجله في الركاب ، قال : " بسم الله " فإذا استوى على الدابة قال : { الحمد لله الذي خسر لنا هذا … } إلى : { منقلبون } ، ثم كبّر " ثلاثاً " وهلّل ثلاثاً ، ثم قال : " اللهم اغفر لي … " ، وحُكي أن قوماً ركبوا ، وقالوا : { سبحان الذي سخّر لنا هذا … } الآية ، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هُزالاً ، فقال : إني مقرن لهذه - أي مطيق - فسقط منها لوثبتها ، واندقّت عنقه . وينبغي ألا يكون ركوبُ العاقل للشهرة والتلذُّذ ، بل للاعتبار ، فيحمد الله ويشكره على ما أولاه من نعمه ، وسخَّر له من أنعامه . الإشارة : قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع ، إلا مَن عِبْرة به من الفلاسفة ، وإنما كفر مَن كفر بالإشراك ، أو : بوصف الحق على غير ما هو عليه ، أو : بجحد الرسول . وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره ، بظهور آثار قدرته ، والصفة لا تُفارق الموصوف ، فدلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه ، وبوجود أسمائه ، على وجود أوصافه ، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته . فأهل السلوك يكشف لهم أولاً عن وجود آثاره ، ثم عن أسمائه ، ثم صفاته ، ثم عن شهود ذاته . وأهل الجذب يكشف لهم أولاً عن ذاته ، ثم عن أوصافه ، ثم عن أسمائه ، ثم عن آثاره ، فربما التقيا في الطريق ، هذا في ترقيه ، وهذا في تدليه ، كما في الحِكَم . وقوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهاداً … } الخ ، قال القشيري : كما جَعلها قَراراً لأشباحهم ، جَعَلَ الأشباحَ قراراً لأرواحهم فهي سُكَّانُ النفوس ، كما أن الخَلْق سُكَّانُ الأرضِ ، فإذا انتهت مدةُ كَوْنِ النفوسِ ، حَكَمَ اللّهُ بخرابها … كذلك إذا فارقت الأرواحُ الأشباحَ بالكُلِّية ، قضى الله بخرابها . ثم قال في قوله : { فأنشرنا به بلدة ميتاً } وكما يُحْيي الأرضَ بالمطَر يُحْيي القلوبَ بحُسن النَّظَر . والذي خلق من الأزواج أصنافَ الخَلْق ، كذلك حبس عليكم الأحوالَ كلها ، فمِنْ رغبةٍ في الخيرات ، وخوفٍ يحملكم على تَرْكِ الزلاّت ، ورجاءٍ يبعثكم على فعل الطاعات ، طمعاً في المثوبات ، وغير ذلك من فنون الصِّفات ، وكما سَخَّرَ الأنعام ، وأعظمَ المنَّة بذلك ، سَخَّر للمؤمنين مركب التوفيق ، بحْملهم عليه إلى بساط الطاعة ، وسهَّل للمريدين مركبّ الإرادة ، وحَمَلَهم عليه إلى عَرَصَات الجود ، وفضاء الشهود ، وسَهَّل للعارفين مركبَ الهِمّة ، فأناخوا بالحضرة القدسية ، وعند ذلك مَحَطُّ الكافة ثم لا تخرق سرادقاتِ العزةِ هِمَّةُ مخلوقٍ ، سواء كان ملَكاً مُقّرَّباً ، أو نبيّاً مُرْسلاً ، أو ولياً مُكَرَّماً . فعند سطواتِ العِزِّ يتلاشى كلُّ مخلوقٍ ، ويقف وراءها كل مُحْدَثٍ مسبوق . هـ . ببعض المعنى . وسرادقات العز : حجاب الكبرياء ، فلا تحصل الإحاطة بكُنه الربوبية لأحدٍ من الخلق . ولهذا يبقى الترقي أبداً للعارفين ، في هذه الدار ، وفي تلك الدار ، ولا يحصل على غاية أسرار الربوبية أحد ، ولو بقي يترقى أبداً سرمداً . والله تعالى أعلم . ثم أبطل مذهب أهل الشرك ، فقال : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ } .