Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 44, Ayat: 25-33)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { كم تركوا من جناتٍ وعُيون } أي : كثيراً ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين . رُوي أنها كانت متصلة بضفتي النيل جميعاً ، من رشيد إلى أسوان ، { وعُيون } يحتمل أن يريد الخلجان ، شَبَّهها بالعيون ، أو كانت ثَمَّ عيون وانقضت ، { وزُروعٍ } أي : مزارع ، { ومَقام كريم } محافل مُزينة ، ومنازل مُحسَّنة ، وسمّاه كريماً لأنه مجلس الملوك ، وقيل : المنابر ، { ونَعْمةٍ } أي : بسطة ولذاذة عيش وتنعُّم ، { كانوا فيها فاكِهين } أي : متنعّمين فرحين مسرورين . وفي المشارق : النعمة - بالفتح التنعُّم ، وبالكسر : اسم ما أنعم الله به على عباده ، قال ابن عطية : النعمة - بالفتح : غضاوة العيش ، ولذاذة الحياة ، والنعمة - بالكسر : أعم من هذا كله ، وقد تكون الأمراض والمصائب نِعماً ، ولا يقال فيها نعمة بالفتح . هـ فانظره . { كذلك } أي : الأمر كذلك ، فالكاف في محل الرفع ، على أنه خبر عن مضمر ، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه : { تركوا } أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها ، { وأورثناها قوماً آخرين } ليسوا منهم في شيء في قرابة ولا دين ، ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل ، بأن تولُّوا أحكامها والتصرُّف فيها . وقال الحسن : رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر ، نظيره : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفَونَ … } [ الأعراف : 137 ] الآية ، ومثله عن القرطبي والبيضاوي ، وكذلك في نوادر الأصول ، وقد تقدّم الكلام عليه في الشعراء . وفي الآية اعتبار واستبصار ، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار ، وسيأتي في الإشارة ما فيه كفاية نظماً ونثراً . { فما بَكَتْ عليهم السماءُ والأرض } مجاز عن الاكتراث بهلاكهم ، والاعتداد بوجودهم ، وفيه تهكُّم بهم ، وبحالهم المنافية ، بحال مَن يعظم فقده ، فيقال : { بكت عليهم السماء والأرض } وكانت العرب إذا عظَّمت مهلك رجل قالوا : بكته الريحُ والبرقُ والسماء ، قال الشاعر : @ الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَها والبَرْقُ يَلْمعُ فِي الغمامَهْ @@ وقال جرير ، يرثي عمر بن عبد العزيز : @ فالشَّمسُ طالِعةٌ ليستْ بكاسفةٍ تَبكي عليك نُجُومَ اللَّيل والْقَمَرَا حُمّلْتَ أمراً عظيماً فاصطَبرَتْ له وقُمْتَ فينا بأمر اللّهِ يَا عُمَرا @@ وقيل : البكاء حقيقة ، وأن المؤمن تبكي عليه من الأرض مُصلاَّه ، ومحل عبادته ، ومن السماء مَصْعدُ عمله ، كما في الحديث ، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر ، ودوابه ، وهَوام البر وأنعامه ، والطير في الهواء ، وهؤلاء لمَّا ماتوا كُفاراً لم يعبأ الوجودُ بفقدهم ، بل يفرح بهلاكهم ، { وما كانوا } لّمَّا جاء وقت هلاكهم { مُنظّرين } ممهلين إلى وقت آخر ، أو إلى الآخر ، بل عجّل لهم في الدنيا . { ولقد نجينا بني إِسرائيلَ } لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا { من العذاب المهين } من استعباد فرعون إياهم ، وقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، { من فرعون } بدل من العذاب المهين بإعادة الجار ، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً ، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم ، أو خبر عن مضمر ، أي : ذلك من فرعون ، وقُرئ " مَن فرعون " على معنى : هل تعرفونه مَن هو في عتوه وتفرعنه ؟ وفي إبهام أمره أولاً ، وتبيينه بقوله تعالى : { إِنه كان عالياً من المسرفين } ثانياً ، من الإفصاح عن كُنه أمره في الشر والفساد مما لا مزيد عليه وقوله تعالى : { من المسرفين } إما خبر ثان ، أي : كان متكبراً مسرفاً ، أو حال من الضمير في " عالياً " أي : كان رفيع الطبقة من بين المسرفين ، فائقاً لهم ، بليغاً في الإسراف . { ولقد اخترناهم } أي : بني إسرائيل { على عِلْمٍ } أي : عالِمين بأنهم أحقاء بالاختيار ، أو عالِمين بأنهم يزيغون في بعض الأوقات ، ويكثر منهم الفرطات ، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا ، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات ، { على العالَمين } أي : عالمي زمانهم ، لما كثر فيهم من الأنبياء ، { وآتيناهم من الآيات } كفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وغيرها من عظائم الآيات ، { ما فيه بلاء مبين } نعمة ظاهرة ، أو : اختبار ظاهر ، لينظر كيف يعملون ، وقيل : البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرضا ، والصبر عند الكدر والعناء . الإشارة : كم ترك أهلُ الغفلة والاغترار ، من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، من قصور وديار ، فارقوها ، أخصب ما كانوا فيها ، وأُزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها ، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور ، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخِّرق والأكفان ، فيا مَن ركن إلى الدنيا ، انظر كيف تفعل بأهلها ، فرحم الله عبداً أخذ من الدنيا الكفاف ، وصاحب فيها العفاف ، وتزوّد للرحيل ، وتأهّب للمسير . ذكر الطرطوسي في كتابه " سراج الملوك " : قال أبو عبد الله بن حمدون : كنتُ مع المتوكل ، لما خرج إلى دمشق ، فركب يوماً إلى رصافة " هشام بن عبد الملك " فنظر إلى قصورها خاوية ، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم ، حسن البناء ، بين مزارع وأشجار ، فدخله ، فبينما هو يطوف به ، إذ بَصُر برقعة قد التصقت بصدره ، فأمر بقلعها ، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات . @ أَيا مَنْزلاً بالدّيْرِ أَصْبَحَ خَالياً تَلاعَبَ فيه شمألُ ودِفُورُ كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بيضٍ نَوَاعمٌ وَلَمْ يَتَبَخْتَر في قِبابِكَ حُورُ وأَبْنَاءُ أَمْلاكِ غَواشِمُ سَاداتٍ صَغِيرهم عِندَ الأنَامِ كَبِيرُ إذَا لَبسوا أَدْرَاعَهم ، فعَوَابسٌ وَإن لَبسوا تيجانَهمْ فَبُدورُ علَى أنَّهم يَومَ اللِّقاء ضَرَاغِمٌ وأَنَّهم يوم النَّوالِ بُحورُ ليالي هِشامٌ بالرّصاَفَةٍ قاطنٌ وفيك ابنه يا دَيْرَ وَهُوَ أَميرُ @@ إلى أن قال : @ بلَى فسقاكِ الْغَيثُ صَوب سحائبٍ عَلَيْك بِها بَعد الرَّواحِ بُكْورُ تَذَكَّرْتُ قَومي فيكما فَبَكيتهم بشَجْوٍ ومثْلِي بالبُكَاءِ جديرُ فعَزيْتُ نَفْسِي وهْي نَفَسٌ إذا جَرى لَها ذِكْر قَومِي أَنَّةٌ وزفِيرُ @@ فلما قرأها المتوكل ارتاع ، ثم دعا صاحب الدير ، فسأله : مَن كتبها ؟ فقال : لا علم لي ، وانصرف هـ . ومن هذا القبيل ما وجد مكتوباً على باب " كافور الإخشيدي " بمصر : @ انْظر إلى عِبرِ الأيَّامِ مَا صنعتْ أَفْنَتْ أنَاساً بها كانوا ومَا فنيتْ دِيارهم ضَحِكَتْ أَيَّامَ دولتِهِمْ فإِذا خلَتْ مِنْهُم صاحتهم وبَكَتْ @@ ومن هذا أيضاً ما وُجد على قَصر " ذي يزن " مكتوباً : @ بَاتوا على قُلَل الأجْبَال تَحْرسُهمْ غُلْبُ الرجال فلمْ تمنعْهم الْقُلَل واستُنزلوا منْ أَعالِي عز معْقلهمْ فأُسْكِنوا حُفراً ، يا بِئْسَ ما نَزَلوا أَيْنَ الْوجوه التي كانت محَجَّبةً من دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكلل ؟ فأَفْصح القبرُ عَنْهم حين سائلهم تِلْك الوجوه عَلَيْهَا الدود تقتبلُ قد طالَ ما أَكَلوا دهراً وما شَرِبُوا فَأصبحوا بَعدَ طُولِ الأكْلِ قد أُكلوا @@ وحاصل الدنيا ما قال الشاعر : @ أَلاَ إِنَّما الدنيا كأَحْلامِ نَائِم وَمَا خَيْر عَيْشٍ لاَ يَكونُ بِدائم ؟ ! تَأمَّلْ إذَا ما نِلْت بالأمْسِ لَذَّةً فَأفنَيْتها هَلْ أَنْتَ إلا كَحَالِم ؟ ! @@ هذه فكرة اعتبار ، وأما فكرة استبصار ، فما ثَمَّ إلا تصرفات الحق ، ومظاهر أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، ظهرت في عالم الحكمة بالأشكال والرسوم ، وأما في عالم القدرة فما ثَمَّ إلا الحي القيوم . @ تَجلّى حَبِيبي فِي مرائي جَمَالهِ فَفِي كلِّ مَرئيٍّ لِلحَبِيبِ طَلاَئِعُ فلَمَّا تَبَدَّى حُسْنهُ متنوِّعاً تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فهن مَطَالِعُ @@ وقوله تعالى : { فما بكت عليهم السماء والأرض } يُفهم منه : أن من عظم قدره تبكي على فقده السموات والأرض ومَن فيهن ، في عالم الحس ، الذي هو عالم الأشباح وتفرح به أهل السموات السبع في عالم الأرواح لتخلُّصه إليها ، فيستبشر بقدومه كل مَن هنالك ، وينظر اللّهُ إلى خلقه بعين الرحمة ، فيرتحم ببركة قدومه الوجود بأسره . والله ذو الفضل العظيم . وقوله تعالى : { ولقد اخترناهم على علم } قال القشيري : ويُقال : على علم بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا ، ويقال : على علم بما نُودع عندهم من أسرارنا ، ونكاشفهم به من حقائق حقنا . وقال الورتجبي : { ولقد اخترناهم على علم } أي : على علم بصفاتنا ، ومعرفة بذاتنا ، ومشاهدة على أسرارنا ، وبيان على معرفة العبودية والربوبية ، ودقائق الخطرات والقهريات واللطيفات في زمان المراقبات . هـ . وقا الواسطي : اخترناهم على علم منا بجنايتهم ، وما يقترفون من أنواع المخالفات ، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا لهم ، ليُعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات . وقال الجرّار : علما ما أودعنا فيهم من خصائص سرنا ، فاخترناهم بعلمنا على العالمين . هـ . قلت : والمقصود بالذات : بيان أن اختياره - تعالى - مرتّب على سابق علمه الأزلي ، وعلمه - تعالى - لا تُغيره الحوادث ، وقد انقطعت دولة بني إسرائيل ، فما بقي الكلام إلا مع الملة المحمدية . ثم ردّ على مَن أنكر البعث ، بعد أن ذكر بعض أشراطه ، كالدخان وغيره ، فقال : { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ } .