Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 12-13)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { اللّهُ الذي سخَّر لكم البحر } أي : ذلّله ، بأن جعله أملس السطح ، يطفو عليه ما فوقه ، ولا يمنع الغوص فيه ، لمَيَعَانه ، { لتجري الفلكُ فيه بأمره } بإذنه ، وأنتم راكبوها ، { ولتبتغوا من فضله } بالتجارة ، والغوص لابتغاء الحلية ، كاللؤلؤ والمرجان ، وكالصيد وغيرها ، { ولعلكم تشكرون } ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك ، { وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض } من الموجودات . بأن جعلها مداراً لمنافعهم . قال القشيري : إذ ما من شيء من الأعيان الظاهرة ، إلا وللإنسان به انتفاع من وجوه ، فالسماء لها بناء ، والأرض لهم مِهاد ، وليتأمل العبدُ في كل شيء لو لم يكن ، أيّ خلل يرجع إلى الخلق ؟ لولا الشمس كيف كانوا يتصرفون بالنهار ؟ ولولا الليل ، كيف كانوا يسكنون ؟ ولولا القمر هل كانوا يهتدون للحساب والآجال ؟ وكذلك جميع المخلوقات . هـ . وقوله : { جميعاً منه } حال ، وليس من التوكيد لعدم الضمير ، ولو كان توكيداً لقال : جميعه ثم التوكيد بجميع قليل ، فلا يحمل التنزيل عليه ، قاله في المغني . والمنفي كونه توكيداً اصطلاحياً ، فلا ينافي كونه حالاً مؤكدة في المعنى . { إِنَّ في ذلك } أي : فيما ذكر من الأمور العظام { للآياتٍ } عظيمة الشأن ، كثيرة العدد ، { لقوم يتفكرون } في بدائع صنعه تعالى ، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها ، ويُوفَّقون لشكرها . الإشارة : { الله الذي سخَّر لكم بحر } التوحيد الخاص ، وهو تجلِّي عظمة الذات ، لتجري فلكُ الأفكار في تيار بحر الذات ونور الصفات ، فتراها تعوم تارة في أسرار الجبروت الأعلى ، وتارة في أنوار الملكوت الأدنى ، ولتبتغوا من فضل معرفته ، وزيادة الترقي في كشف الأسرار ، وهذا لمَن اتسع عليه فضاء الشهود ، وزاحت عنه حُجب الكائنات ، وأما مَن بقي مسجوناً فيها ، السماء تُظله ، والأرض تُقله ، فلا يطمع أن تسرَحَ فكرته في هذه البحار ، وحسبه أن يكون حَمّاراً يسافر في البَر ، تعبه كثير ، وربحه قليل ، والغناء به بعيد ، وسبب بقائه في تعب البر عدم صحبته للرجال البحرية ، الذين هم رُيَّاس البحر ، وشيوخ ركْب البر . وبالله التوفيق . قال القشيري : { الله الذي سخر لكم البحر } تركبونه ، فربما تسْلَم السفينةُ ، وربما تغرق ، كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير ، تمشي بهم رياح العناية ، وترفع لهم شراع التوكُّل ، تجري في البحر لتَجْر اليقين ، فإن هبّت رياحُ السلامة نجت السفينة ، وإن هبّت نكباء الفتنة لم يبقَ بيد الملاّح شيء ، فعند ذلك المقادير غالبة ، وبلغت قلوبُ أهل السفينة الحناجرَ . هـ . قلت : مَن ركب مع رائس ماهر الغالب عليه السلامة . قوله تعالى : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } في بعض الأثر : يقول الله تعالى : " يا ابن آدم خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي ، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك لأجله " أي : لا تنشغل بخدمة الكون عن خدمة المكوّن ، فما أفلح مَن انشغل بدنياه ، وآثر هواه على خدمة مولاه ، كان حرّاً والأشياء كلها عبيد له ، فصار عبداً لعبيده ، بحبه للأشياء وتعشُّقه لها ، كانت الأشياء تعشقه وتخدمه ، ثم صار يخدم الأشياء ويعشقها ، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن ، فإذا شَهِدت المكوّن كانت الأكوان معك ، فاعرف قدرك أيها الإنسان ، وارفع همتك عن الأكوان ، وعلِّق قلبك بالملك الديّان ، يُعطك الحق تعالى من العرش إلى الفرش ، تتصرف فيه بهمتك كيف شئت ، وما ذلك على الله بعزيز . ثم بيَّن الطريق الموصل إلى هذا ، وهو حُسن الخلق مع كل مخلوق ، فقال : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ } .