Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 9-10)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { قل ما كنتُ بِدعاً } أي : بديعاً ، كخف وخفيف ، ونصب ونصيب ، فالبدع والبديع من الأشياء : ما لم يتقدم مثله ، أي : لستُ بأول مرسل فتُنكر نبوتي ، بل تقدمت الرسل قبلي ، واقترِحتْ عليهم المعجزات ، فلم يقدروا على الإتيان بشيء إلا ما أظهره الله على أيديهم ، في الوقت الذي يُريد . قيل : كانت قريش تقترح على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات تظهر لهم ، ويسألونه عن الغيبيات ، عناداً ومكابرة ، فأُمر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : ما كنت بِدعاً من الرسل ، قادراً ما لم يقدروا عليه ، حتى آتيكم بكل ما تقترحونه ، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب ، فإنَّ مَن قبلي من الرسل عليم السلام ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله تعالى من الآيات ، ولا يُخبرون إلا بما أوحي إليهم ، { وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم } أي : لا أدري ما يُصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى ، وماذا يبرز لنا من قضاياه . وعن الحسن : ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما يُفعل بي ولا بكم في الآخرة . وقال : إنه منسوخ بقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] قال شيخ شيوخنا الفاسي : وهو بعيد ، ولا يصح النسخ لأنه لا يكون في الأخبار ، ولأنه لم يزل يعلم أن المؤمن في الجنة ، والكافر في النار ، من أول ما بعثه الله ، لكن محمل قول ابن عباس وغيره على أنه لم تكشف له الخاتمة ، فقال : لا أدري ، وأما مَن وافى على الإيمان ، فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة ، وإلا فكان للكفار أن يقولوا : وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة ؟ قاله ابن عطية . هـ . وقال أبو السعود : والأوفق بمان ذكر من سبب النزول : أن " ما " عبارة عما عِلْمُه ليس من وظائف النبوة ، من الحوادث الواقعات الدنيوية ، دون ما سيقع في الآخرة ، فإنَّ العلم بذلك من وظائف النبوة ، وقد ورد به الوحي ، الناطق بتفاصيل الفعل بالجانبين . هذا ، وقد رُوي عن الكلبي : " أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له صلى الله عليه وسلم وقد ضجروا من إذاية المشركين : متى نكون على هذا ؟ فقال : { ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم } أأترَكُ بمكة أو أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر ، قد رفعتْ إليّ ورأيتها . هـ . وسأتي في الإشارة تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى . ثم قال : { إِن أتبعُ إِلا ما يُوحَى إِليَّ } أي : ما أفعل إلا الاتباع ، على معنى : قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي ، لا قصر اتباعه على الوحي ، كما هو المتبادر ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار بالغيوب ، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من إذاية المشركين ، والأول هو الأوفق بقوله : { وما أنا إِلا نذير مبين } أُنذركم عقاب الله تعالى حسبنا يُوحى إليّ من الإنذار بالمعجزات الباهرة . { قل أرأيتم إِن كان } ما يوحى إليّ من القرآن { مِن عند الله } لا بسحر ولا مفترى كما تزعمون { و } قد { كفرتم به وشَهِدَ شاهدٌ } عظيم { من بني إِسرائيل } الواقفين على شؤون الله وأسرار الوحي ، بما أُوتوا من التوراة . والشاهد : عبد الله بن سلام ، عند الجمهور ، ولهذا قيل : إن الآية مدنية ، لأن إسلام " عبد الله بن سلام " بالمدينة . قلت : لَمّا عَلِمَ اللّهُ ما يكون من ابن سلام من الإسلام أخبر به قبل وقوعه ، وجعل شهادته المستقبلة كالواقعة ، فالآية مكية . وقوله : { على مثله } أي : مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة ، المطابقة لما في القرآن من الوعد والوعيد وغير ذلك ، فإنَّ ما فيه عين ما فيها في الحقيقة ، كما يُعرب عنه قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 196 ] والمثلية باعتبار كونه من عند الله . وقيل : المثل : صلة . { فآمَنَ } ذلك الشاهد لَمّا تحقق برسالته . رُوي أنه لما قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب ، وقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بالُ الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أول أشراط الساعة فنارٌ تحشُرُ الناسَ من المشرق إلى المغرب ، وأول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإذا سبقَ ماءُ الرجل نزعه ، وإن سبق ماءُ المرأة نزعته " فقال : أشهد أنك رسول الله حقاًُ ، فأسلم . { واستكبرتم } عن الإيمان به ، وجواب الشرط محذوف ، والمعنى : أخبروني إن كان من عند الله ، وشهد بذلك أعلم بني إسرائيل ، فآمن به من غير تلعثم ، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه البينة ، فمَن أضل منكم ؟ بدليل قوله تعالى : { أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ … } [ فصلت : 52 ] الآية أو : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين ؟ ويدل عليه قوله : { إِن الله لا يهدي القوم الظالمين } ، والتقديران صحيحان ، لأن عدم الهداية مستلزم الضلال ، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم ، فإن تركه - تعالى - لهدايتهم إنما هو لظلمهم . وقال الواحدي : معنى : { إِنّ الله لا يهدي القوم الظالمين } : إن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان أن يمدهم في ضلالتهم ، ويحرمهم الهداية . هـ . الإشارة : قل ما كنت بِدعاً من الرسل ، وكذلك الوليّ يقول : ما كنت بِدعاً من الأولياء ، مع العصمة والحفظ وصريح الوعد بالنجاة ، لاتساع معرفتهم وعلمهم بالله لأنهم لا يقفون مع عد ولا وعيد لأن غيب المشيئة لا يعلم حقيقته إلا الله ، وقد يكون الوعد معلقاً بشروط أخفاها الله عنهم ، ليتحقق اختصاصه بحقيقة العلم ، وفي الحديث : " لا تأمن مكري وإن أَمَّنتك " ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، وعلى ذلك الششتري في نونيته ، حيث قال : @ وأي وِصَالٍ في القَضِيَّة يُدَّعى وأكلُ مَن الْخَلْق لم يدَّع الأمْنا ؟ @@ هذا ، وقد قال تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى } [ الضحى : 4 ، 5 ] وقال : { لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ، ومع ذلك كله لم يقف مع ظاهر الوعد ، لغيب المشيئة ، فقال في حديث ابن مظعون : " والله لا أدري - وأنا رسول - ما يُفعل بي " وحديث ابن مظعون بالمدينة بعد الهجرة ، فتبيَّن أنَّ الأمن الحقيقي لا يحصل لأحد قبل الختام ، وإن كان الغالب والطرف الراجح أن من وُعد بخيرٍ أو بُشِّر به يُنْجَز له بفضل الله وكرمه ، والكريم إذا وعد لا يُخلف ، لكن المشيئة وقهرية الربوبية لا تزال فوق رأس العبد حتى يلقاه . والله تعالى أعلم . قال القشيري : وفي الآية دليل على فساد قول أهل البدع ، حيث لم يُجوزوا إيلام البريء عقلاً لأنه لو لم يَجُزْ ذلك لكان يقول : أعْلَمُ قطعاً أني معصومٌ ، فلا محالةَ يغفر لي ، ولكنه قال هذا ليُعلم أن الأمر أمرُه ، والحكمَ حكمُه ، له أن يفعلَ بعباده ما يريد . هـ . وقال الورتجبي : لا أدري أين استغرق في بحار وصال جماله الأبدي ، وهناك لججات تغيب في ذرة منها جميعُ الأرواح العاشقة ، والأسرار الوالهة ، والقلوب الحائرة . هـ . والحاصل : أنه لا يدري نهاية مناله من الله ، لنفي الغاية في حقه تعالى والنهاية ، وهو صريح استبعاد الششتري دعوى الوصال ، والله أعلم . هـ . من الحاشية . ثم حكى مقالة أخرى للكفار من مقالاتهم الباطلة ، فقال : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } .