Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 19-19)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فاعلم أنه لا إِله إِلا اللّهُ } أي : إذا علمت أن مدار السعادة ، والفوز بالنعيم في دار البقاء هو التوحيد والطاعة ، ومناط الشقاء والخسران في دار الهوان هو الإشراكُ والعصيان ، فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ، واعلم أنه لا إله في الوجود إلا الله ، فلا يستحق العبادة غيره ، { واستغفر لذنبك } وهو ما قد يصدر منه صلى الله عليه وسلم من خلاف الأولى ، عبّر عنه بالذنب نظراً إلى منصبه الجليل ، كيف لا ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين ؟ فكل مقام له آداب ، فإذا أخلّ بشيء من آدابه أُمر بالاستغفار ، فلمقام الرسالة آداب ، ولمقام الولاية آداب ، ولمقام الصلاة آداب ، وضعفُ العبودية لا يقوم بجميع حقوق الربوبية ، قال تعالى : { وَمَا قٌدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الزمر : 67 ] . وبالجملة فالقيام بالآداب مع الله - تعالى - على ما يستحقه - سبحانه - حتى يُحيط العبد بجميع الآداب مع عظمة الربوبية محال عادة ، قال صلى الله عليه وسلم مع جلالة منصبه : " لا أُحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " فكل ما قَرُبَ العبدُ من الحضرة شُدّد عليه في طلب الأدب ، فإذا أخذته سِنةٌ أُمر بالاستغفار ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستغفر في المجلس سبعين مرة ، أو مائة ، على ما في الأثر . وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي ، بعد كلام : والحق أن استغفاره صلى الله عليه وسلم طلب ثبات المغفرة والستر من الوقوع ، لا طلب العفو بعد الوقوع ، وقد أخبره تعالى بأنه فعل . وقد يُقال : استغفار تعبُّد لا غير . قال : والذي يظهر لي أن أمره بالاستغفار مع وعد الله بأنه مغفور له إشارة إلى الوقوف مع غيب المشيئة ، لا مع الوعد ، وذلك حقيقةٌ ، والوقوف مع الوعد شريعة . وقال الطيبي : إذا تيقنت أن الساعة آتية ، وقد جاء أشراطها ، فخُذ بالأهم فالأهم ، والأَولى فالأَولى ، فتمسّك بالتوحيد ، ونزِّه اللّهَ عما لا ينبغي ، ثم طَهِّر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك ، مِن ترك الأَولى ، فإذا صِرت كاملاً في نفسك فكن مكمِلاً لغيرك ، فاستغفر { للمؤمنين والمؤمنات } . هـ . أي : استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم ، وترغيبهم فيما يستدعي غفران ذنوبهم . وفي إعادة الجار تنبيه على اختلاف معلّقيْه إذ ليس موجبُ استغفاره صلى الله عليه وسلم كموجب استغفارهم ، فسيئاته - عليه السلام - فرضاً حسناتهم . وفي حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه - أي : ولذنب المؤمنين - إشعار بعراقتهم في الذنوب ، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار . { واللّهُ يعلم متقلَّبكم ومثواكم } أي : يعلم متقلبكم في الدنيا ، فإنها مراحل لا بد من قطعه ، ويعلم مثواكم في العقبى فإنها مواطن إقامتكم ، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما ، فبادِروا إلى الامتثال لما أمركم به ، فإنه المهم لكم ، أو : يعلم متقلبكم : في معايشكم ومتاجركم ، ومثواكم : حيث تستقروا في منازلكم ، أو متقلبكم : في حياتكم ، ومثواكم : في القبور ، أو : متقلبكم : في أعمالكم الحسنة أو السيئة ، ومثواكم : من الجنة أو النار ، أو : يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها ، فمثله حقيق بأن يُخشى ويُتقى ويُستغفر . الإشارة : قال القشيري : قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فاعلم أنه لا إِله إلا الله } وكان عالماً ، ولكن أمره باستدامة العلم واستزادته ، وذلك في الثاني من حاله في ابتداء العلم ، لأن العلم أمر ، ولا يجوز البقاء على الأمر الواحد ، فكل لحظة يأتي فيها علم . ويقال : كان له علم اليقين ، فأُمِر بعين اليقين ، فأُمِر بعين اليقين ، أو : كان له عيه اليقين ، فأُمر بحق اليقين . ويقال : قال صلى الله عليه وسلم : " أنا أعملكم بالله وأخشاكم له " فنزلت الآية ، أي : أُمر بالتواضع . وهنا سؤال : كيف قال : " فاعلم " ولم يقل صلى الله عليه وسلم بعدُ : علمتُ ، كما قال إبراهيم حين قال له : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ } [ البقرة : 131 ] ويُجاب : بأن الله تعالى أخبر عنه بقوله : { ءَامَنَ الرَّسُولُ } [ البقرة : 285 ] والإيمان هو العلم ، فإخبارُ الحق تعالى عنه أتم من إخباره عن نفسه بقوله : علمته . ويُقال : إبراهيم عليه السلام لما قال : { أسلمتُ } ابتلي ، ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يقل علمت ، فعُوفي ، ويقال : فرق بين موسى ، لمَّا احتاج إلى زيادة العلم أُحيل على الخضر ، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال له : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } [ طه : 114 ] فكم بين مَن أُحيل في استزادة العلم على عبد ، وبين مَن أُمِر باستزادة العلم من الحق . ويقال : إنما أمره بقوله : { فاعلم } بالانقطاع إليه من الحظوظ من الخلق ، ثم بالانقطاع منه إليه ، وإذا قال العبد هذه الكلمة على العادة ، والغفلة عن الحقيقة ، وهي نصف البيان فليس لهذا القول كبيرُ قيمةٍ ، وهذا إذا تعجب من شيء فذكر هذه الكلمة ، فليس له قَدْرٌ ، وإذا قاله مخلصاً ذاكراً لمعناها ، متحققاً بحقيقتها ، فإن قاله بنفسه فهو في وطن التفرقة ، وعندهم هذا من الشِّرْكِ الخفيِّ ، وإن قاله بالحق فهو إخلاص ، والعبد أولاً يعلم ربه بدليل وحُجةٍ ، فعلمه بنفسه ضروري ، وهو أصل الأصول ، وعليه ينبني كل علم استدلالي . ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان ، وزيادة الحُجج ، ويتناقض علمه بنفسه لغَلَبة ذكرِ الله بقلبه عليه ، فإذا انتهى لحال المشاهدة ، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه ، صار علمه في تلك الحالة ضرورياً ، ويقِل إحساسه بنفسه ، حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال ، وكأنه غافلٌ عن نفسه ، أو ناسٍ لنفسه ، ويُقال : الذي في البحر غلب عليه ما يأخذه من الرؤية عن ذكر نفسه ، فإذا ركب البحر فرَّ من هذه الحالة ، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرقٌ فيه مستهلَك .