Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 20-24)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ويقول الذين آمنوا لولا نُزَّلت سورةٌ } فيها ذِكر الجهاد ، وذلك أنَّ المؤمنين كان حرصُهم على الجهاد يبعثهم على تمني ظهور الإسلام ، وتمني قتال العدو ، فكانوا يأنسوا بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ ، وكان المنافقون على العكس من ذلك ، { فإِذا أُنزلت سورةٌ } في معنى الجهاد { محكمةٌ } أي : مبيّنة غير متشابهة ، لا تحتمل وجهاً إلا وجوب الجهاد . وعن قتادة : كل سورة فيها ذِكْر القتال فهي محكمة لأن النسخ لا يَردُّ عليها لأن القتال نسَخَ ما كان قبلُ من الصلح والمهادنة ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة . هـ . { وذُكِر فيها القتالُ } أي : أُمر فيها بالجهاد { رأيتَ الذين في قلوبهم مرض } نفاق ، أي : رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها ، { ينظرون إِليك نظرَ المغشيِّ عليه من الموت } أي : تشخص أبصارُهم جُبناً وجَزعاً كما ينظر مَن أصابته الغشيةُ عند الموت . قال القشيري : كان المسلمون تضيق صدورُهم لتأخر الوحي ، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحيُ بسرعةٍ ، والمنافقون إذا ذُكر القتال يكرهون ذلك لما كان يشُق عليهم القتال ، فكانوا بذلك يفتضحون وينظرون إليه نظر المغشيِّ عليه من الموت أي : بغاية الكراهة لذلك ، { فأَوْلَى لهم } تهديد ، أي : الوعيد لهم هـ . وقيل : المعنى : فويل لهم ، وهو أفعل ، من : الوَلْي ، وهو القرب ، والمعنى : الدعاءُ عليهم بأن يليَهم المكروه ، ويقربَ من ساحتِهم ، وقيل : أصله : أَوْيَل ، فقُلب ، فوزنه : أفلَع ، قال الثعلبي : يقال لمَن همّ بالعطَب ثم أفلت : أولى لك ، أي : قاربت العطَب . وقوله تعالى : { طاعةٌ وقولٌ معروف } استئناف ، أي : طاعة لله وللرسول ، وقولٌ معروف حسن خيرٌ لهم ، أو : يكون حكايةَ قولِ المنافقين ، أي : قالوا : أَمْرُنا طاعة وقول معروفٌ ، قالوه نفاقاً ، فيكون خبراً عن مضمر ، وقيل : " أَوْلَى " : مبتدأ ، و " طاعة " : خبره ، وهذا أحسن ، وهو المشهور من استعمال " أَوْلى " بمعنى : أحق وأصوب ، أي : فالطاعة والقول المعروف أَوْلى لهم وأصوب . { فإِذا عَزَمَ الأمرُ } أي : فإذا جدّ الأمر ولزمهم القتال { فَلَوْ صَدَقوا اللّهَ } في الإيمان والطاعة { لكان } الصدق { خيراً لهم } من كراهة الجهاد ، وقيل : جواب " إذا " وهو العامل فيها - محذوف ، أي : فإذا عزم الأمرُ خالفوا أو تخلّفوا ، أو نافقوا ، أو كرهوا . { فهل عسيتم إِن توليتم أن تُفسداو في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم } أي : فلعلكم إن أعرضتم عن دين الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض ، بالتغاور والتناهب ، وقطع الأرحام ، بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ، أو : فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم أن تُفسدوا في الأرض ، تَفاخراً على الملك ، وتهالكاً على الدنيا ، فإن أحوالكم شاهدة بذلك من خراب الدين ، والحرص على الدنيا . قال في الحاشية الفاسية : والأشهر أنه من الولاية ، أي : إن وُليتم الحكم ، وقد جاء حديث أنهم قريش أخذ الله عليهم إن وُلوا أمر الناس ألا يُفسدوا ، ولا يَقطعوا الأرحام ، قاله ابن حجر . هـ . وخبر " عسى " : " أن تُفسدوا " والشرط اعتراض بين الاسم والخبر ، والتقدير : فهل عسيتم أن تُفسدوا في الأرض إن توليتم . تقول : عسى يا فلان إن فعلت كذا أن يكون كذا ، فهل عسيتَ أنت ذلك ، أي : فهل توقعت ذلك ؟ { أولئك } المذكورون ، فالإشارة إلى المخاطبين ، إيذاناً بأن ذكر مساوئهم أوجبَ إسقاطَهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم ، وهو مبتدأ ، وخبره : { الذين لعنهم اللّهُ } أبعدهم عن رحمته ، { فأصَمَّهم } عن استماع الحق والموعظة لتصاممهم عنه بسوء اختيارهم ، { وأعمى أبصارهم } لتعاميهم عما يُشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفُس والآفاق . { أفلا يتدبرون القرآن } فيعرفون ما فيه من المواعظ والزواجر ، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات ، { أم على قلوبٍ أقفالها } فلا يصل إليها وعظ أصلاً ، و " أم " منقطعة ، وما فيها من معنى " بل " للانتقال من التوبيخ على عدم التدبُّر إلى الوبيخ بكون قلوبهم مُقفلة ، لا تقبل التدبُّر والتفكُّر ، والهمزة للتقرير . وتنكير " قلوب " ، إما لتهويل حالها ، وتفظيع شأنها ، بإبهام أمرها في الفساد والجهالة ، كأنه قيل : قلوب منكرة لا يُعرف حالها ، ولا يُقادر قدرُها في القسوة ، إما لأنّ المراد بها قلوبُ بعض منهم ، وهم المنافقون ، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها مخصوصة بها ، مناسبة لها ، غير مجانسة لسائر الأفعال المعهودة . قال القشيري : إذا تدبروا القرآنَ أفضى بهم إلى حس العرفان ، وأزاحهم عن ظلمة التحيرُّ { أم على قلوب أقفالها } أقفَل الحقُّ على قلوب الكفار ، فلا يدخلها زواجر التنبيه ، ولا تنبسط عليها شعاعُ العلم ، ولا يحصل فيهم الخطابُ ، والبابُ إذا كان مُقفلاً ، فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه ، كذلك هي قلوب الكفار مقفلة فلا الكفر الذي فيها يخرج ، ولا الإيمان الذي يدعَوْن إليه يدخل في قلوبهم . هـ . وقال ابن عطية : هو الران الذي منعهم من الإيمان ، ثم ذكر حكاية الشاب ، وذلك أن وفْد اليمن قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب ، فقرأ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقال الشابُّ : عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويُفْرجَها ، قال عمر : فعَظُم في عيني ، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى وُلّي الخلافة ، فاستعان بذلك الفتى . هـ . وفي الحديث : " إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له قُفل قلبه ، وجعل فيه اليقين " . الإشارة : أهل التوجُّه والرياضة يفرحون بما ينزل بهم ، مما يثقل على نفوسهم ، كالفاقات والأزمات ، وتسليط الخلق عليهم ، وغير ذلك من النوائب لتموت نفوسهم فتحيا قلوبهم وأرواحهم بمعرفة الله ، والذين في قلوبهم مرض كالوساوس والخواطر يفرُّون من ذلك ، وينظرون - حين يرون أمارات ذلك - نظر المغشي عليه من الموت ، فالأَوْلى لهم الخضوع تحت مجاري الأقدار ، والرضا والتسليم لأحكام الواحد القهار ، فإذا عزم الأمرُ بالتوجه إلى جهاد النفس ، أو بالسفر إلى مَن يُداويها ، فلو صدقوا في الطلب ، وتوجّهوا للطبيب ، لكان خيراً لهم . فهل عسيتم إن توليتم وأعرضتم عن ذلك ، ولم تُسافروا إلى الطبيب ، أن تُفسدوا في الأرض بالمعاصي والغفلة ، وتُقطعوا أرحامكم ، إذا لا يصل رحِمَه حقيقةً إلا مَن صفا قلبه ، ودخله الخوف والهيبة ، أولئك الذي أبعدهم اللّهُ عن حضرتِه ، فأصمَّهم عن سماع الداعي إلى الله ، وأعمى أبصارهم عن رؤية خصوصيته ، وأنوار معرفته ، أفلا يتدبرون القرآن ، فإنَّ فيه علومَ الظاهر والباطن ، لكن إذا زالت عن القلوب الأقفال ، وحاصلها أربعة : حب الدنيا ، وحب الرئاسة ، والانهماك في الحظوظ والشهوات ، وكثرة العلائق والشواغل ، فإن سَلِمَ من هذه صفا قلبُه ، وتجلّت فيه أسرارُ معاني الذات والصفات ، فيتدبّر القرآن ، ويغوص في بحر أسراره ، ويستخرج يواقيتَه ودرره . وبالله التوفيق . ثم ذكر مَن رجع بعد التوجُّه ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ } .