Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 25-30)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ الذين ارتَدُّوا على أدبارهم } أي : رجعوا إلا الكفر ، وهم المنافقون ، الذين وُصفوا قبلُ بمرض القلوب ، وغيره ، من قبائح الأفعال والأحوال ، فإنهم كفروا به صلى الله عليه وسلم { من بعد ما تبيّن لهم الهُدى } بالدلائل الظاهرة ، والمعجزات القاهرة . وقيل : اليهود ، وقيل : أهل الكتابيْن جميعاً ، كفروا به صلى الله عليه وسلم بعدما وجدوا نعته في كتابهم ، وعرفوا أنه المنعوت بذلك ، وقوله تعالى : { الشيطانُ سوَّل لهم } الجملة : خبر " إن " أي : الشيطان زيَّن لهم ذلك ، أو : سهَّل لهم ركوب العظائم ، من : السّول ، وهو الاسترخاء ، أي : أَرْخى العنانَ لهم ، حتى جرَّهم إلى مراده ، { وأَمْلَى لهم } ومدَّ لهم في الآمال والأماني ، وقرأ البصري : " وأُمْليَ " بالبناء للمفعول ، أي : أُمهلوا ومُدَّ في عُمرهم . { ذلك بأنهم قالوا للذين كَرِهوا ما نزّل اللّهُ } الإشارة إلى ما ذُكر من ارتدادِهم ، لا إلى الإملاء ، ولا إلى التسويل - كما قيل - إذ ليس شيئاً منهما سبباً في القول الآتي أي : ذلك الارتداد بسبب أنهم - أي المنافقون - قالوا لليهود الذين كرهوا ما نَزَّل الله من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما علموا أنه من عند الله حسداً وطمعاً في نزوله عليهم : { سنُطيعكم في بعض الأمر } أي : عداوة محمد والقعود عن نصْرِ دينه ، أو : في نصرهم والدفع عنهم إن نزل بهم شيء ، من قِبَلهِ عليه السلام ، وهو الذي حكاه عنهم بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ … } [ الحشر : 11 ] الآية وهم بنو قريظة والنضير ، الذين كانوا يُوالونهم ويُوادونهم ، وإنما كانوا يقولون لهم ذلك سرّاً ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { والله يعلم أسرارهم } أي : جميع أسرارهم التي من جملتها : قولهم هذا ، وقرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدر ، أي : إخفاءَهم لما يقولون لليهود . { فكيف } تكون حيلتهم وما يصنعون { إِذا توفتهم الملائكةُ } حال كونهم { يضربون وجوهَهم وأدبارَهم } وهو تصوير لحال توفيهم على أَهْولَ الوجوه وأفظعها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : " لا يتوفى أحدٌ على معصية إلا تضرب الملائكة وجهَهُ ودُبره " . { ذلك } التوفِّي الهائل { بأنهم } بسبب أنهم { اتبعوا ما أسخط اللّهَ } من الكفر والمعاصي ومعاونة الكفرة ، { وكَرِهُوا رضوانه } من الطاعة والإيمان ونصر المؤمنين ، { فأَحْبَط } لأجل ذلك { أعمالَهم } التي عمِلوها حال الإيمان وبعد الارتداد ، من أعمال البر . { أَمْ حَسِبَ الذين في قلوبهم مرضٌ } هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشينعة ، { أن لن يُخرج اللّهُ أضغانهم } أحقادهم ، فـ " أَمْ " منقطعة ، و " أن " مخففة ، واسمها : ضمير الشأن ، أي : أظن المنافقون الذين في قلوبهم حِقد وعداوة أنه لن يُخرج اللّهُ أحقادهم ، ولن يُبرزَها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فيبقي أمورَهم مستورة ؟ بل لا يكاد يدخل ذلك تحت الاحتمال . { ولو نشاء لأريناكهم } ودللناك عليهم بأمارات ، حتى تعرفهم بأعينهم ، معرفةً مزاحِمةً للرؤية . والالتفات لنون العظمة لإبراز العناية بالإرادة ، وفي مسند أحمد ، عن ابن مسعود : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : " إن منكم منافقين ، فمَن سميتُ فليقم ، ثم قال : قم يا فلان ، حتى سمّى ستة وثلاثين " انظر الطيبي . { فَلعَرفتَهم بسِيماهم } بعلامتهم التي نَسِمُهم بها ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما خَفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين ، يشْكُرهم الناس فناموا ، فأصبح على وجه كل واحد منهم مكتوب : هذا منافق " قال ابن زيد : قصد الله إظهارَهم ، وأمرَهم أن يخرجوا من المسجد ، فأبوا إلا أن يتمسّكوا بلا إله إلا الله ، فحُقِنت دماءهم ، ونَكحوا ونُكح منهم بها . { ولَتعرِفَنَّهم } أي : والله لتعرفنهم { في لحن القول } أي : مجراه وأسلوبه وإمالته عن الاعتدال لما فيه من التذويق والتشديق ، وقد كانت ألسنتهم حادة ، وقلوبهم خاربة ، كما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ … } [ البقرة : 204 ] الآية ، مَن في قلبه شيءٌ لا بد أن يظهر على لسانه ، كما قيل : " ما كمَن فيك ظَهَرَ على فِيك " . وهذه الجُمل كلها داخِلة تحت " لَوْ " معلقةً بالمشيئة ، واللحن يُطلق على وجهين : صواب وخطأ ، فالفعل من الصواب : لَحِنَ يلْحَنُ لَحْناً ، كفرِح ، فهو لَحِنٌ ، إذا فطنَ للشيء ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " ولعل بعضَكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " أي : لقُوتهِ على تصريف الكلام . والفعلُ من الخطأ : لَحَنَ يلحَنُ لحْناً ، كجعل ، فهو لاَحِنٌ إذا أخطأ ، والأصل فيه : إزالة الكلام عن جهته ، مأخوذ من : اللحن ، وهو ضد الإعراب ، وهو الذهاب عن الصواب في الكلام . { والله يعلم أعمالَكم } فيُجازيكم بحسب قصدكم إذا الأعمال بالنيات ، وهذا وعد للمؤمنين ، وإيذانٌ بأن حالهم بخلاف حال المنافقين ، أو : يعلم جميع أعمال العباد ، فيميزُ خيرَها من شرها . الإشارة : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } أي : رَجعوا عن صحبة المشايخ ، بعدما ظهر لهم أسرارُ خصوصيتهم الشيطانُ سوَّل لهم وأَمْلَى لهم ، وتقدّم عن القشيري : أنه يتخلّف عنهم يوم القيامة ، ولا يلحق بالمقربين ، ولو يشفع فيه ألفُ عارف ، بل من كمال المكر به أن يُلقي شَبَهَه في الآخرة على غيره ، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو ، فلا يشفع أحد فيه لظنهم أنه معهم ، فإذا ارتفعوا إلى عليين مُحيت صورته ، ورُفع إلى مقام العامة ، انظر معناه في آل عمران . وقال هنا : الذي طلع فَجرُ قلبه وتلألأ نورُ التوحيد فيه ، ثم ارتدّ قبل طلوع نهار إيمانه انكسفَ شمسُ يومه ، وأظلم نهارُ عرفانه ، ودَجا ليل شَكِّه ، وغابت نجومُ عقله ، فحدَّث عن ظلماتهم ولا حرج . هـ . ولا سيما إذا تحزّب مع العامة في الإذايَة ، وقال للذين كرهوا ما نَزّل الله على أهل الخصوصية من الأسرار : سنُطيعكم في بعض الأمر من إذايتهم ، والله يعلم أسرارهم ، وباقي الوعيد الذي في الآية ربما يشملهم . وقوله تعالى : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض } أي : عداوةٌ لأولياء الله أن لن يُخرج اللّهُ أضغانهم ؟ بل يُخرجها ويُظهر وبالها ، ويفتضحون ولو بعد حين ، وقوله تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول } في قوة الخطاب ، ومفهوم الكلام لأن الأسِرَّة تدلُّ على السريرة ، وما خامر القلوبَ فعلى الوجوه يلوحُ ، وأنشدوا في المعنى : @ لَستُ مَنْ لَيْس يَدْرِي مَا هوانٌ مِن كَرَامه إِنَّ لِلْحُبِّ وَلِلْبَغْضِ عَلَى الْوَجْهِ عَلاَمه @@ المؤمن ينظر بنور الفراسة ، والعارفُ ينظر بعين التحقيق ، والموحِّدُ ينظر بالله ، ولا يستتر عليه شيء . هـ . من القشيري . ثم ذكر اختباره لأهل الصدق ، فقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ } .