Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 47, Ayat: 4-9)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { فضَرْب } : مصدر ، نائب عن فعله ، مضاف إلى مفعوله ، و { مَنّاً } و { فِدَاءً } : مصدران لمحذوف ، و { الذين كفروا } : مبتدأ حُذف خبره ، وهو العامل في المصدر ، أي : والذين كفروا فأتعسهم تعساً ، و { أضل أعمالهم } : عطف على الخبر المحذوف . يقول الحق جلّ جلاله : { فإِذا لقيتم الذين كفروا } في المحاربة { فَضَرْبَ الرقابِ } أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فحذف الفعل وناب عن مصدره للاختصار ، مع إعطاء معنى التوكيد ، لدلالة نصبه على مؤكده ، وضرب الرقاب عبارةٌ عن مطلق القتل ، والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره ، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون ، { حتى إِذا أَثخنتموهم } أكثرتم فيه القتل ، وأغلظتموه ، من : الشيء الثخين ، وهو الغليظ ، أو : أثقلتموهم بالجِراح وهزمتموهم ، { فشُدُّوا الوَثاقَ } أي : فأسِروهم ، وشُدوا وثاقهم ، لئلا يتفلتوا ، والوثاق بالفتح والكسر : ما يشد به . فإذا أسرتموهم فتخيّروا فيهم { وإِما فِدَاءً } أن تفدوا فداءً ، والمعنى : التخيُّر بين الأمرين بعد الأسر ، بين أن يَمُنُّوا عليهم فيطلقوهم ، وبين أن يُفادوهم ، ومذهب مالك : أن الإمام مُخَيَّر في الأسارى بين خمسة ، وهي : المنّ ، والفداء ، والقتل ، والاسترقاق ، وضرب الجزية ، وقيل : لا يجوز المَن ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] فيتعين قتلهم ، والصحيح أنها محكمة ، ومَذْهَب الشافعي : أن الإمام مُخير بين أربعة : القتل ، والاسترقاق ، والفداء بأسارى المسلمين ، والمنّ . ولعل الجزية عنده خاصة بأهل الكتاب . ومذهب أبي حنيفة : التخيير بين القتل والاسترقاق فقط ، قال : والآية منسوخة لأن سورة براءة آخر ما نزل . وعن مجاهد : ليس اليوم مَنّ ولا فداء ، والمراد بالمنّ في الآية . أن يمنّ عليهم بترك القتل ، فيسترقوا ، أو يمنّ عليهم بإعطاء الجزية . هـ . والمشهور : مذهب مالك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل عقبةَ بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، يوم بدر صبراً ، وفادى سائر الأسارى ، ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي ، وهو أسير ، وارتق نساء بني قريظة ، فابعهم ، وضرب الجزية على نصارى نجران ومجوس هاجر . ثم ذكر غاية الحرب فقال : { حتى تضع الحربُ أوزارها } أي : اضربوا رقابهم حتى تضع الحرب أثقالها ، وآلاتها ، التي لا قوم إلا بها ، كالسلاح والكراع ، وذلك حيث لم يبقَ حرب ، بأن تضع أهل الحرب عُدتها ، وقيل : { أوزارها } آثامها ، يعني : حتى يترك أهل الحرب المشركين شركهم ، بأن يُسلموا جميعاً . والمختار : أن المعنى : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على سائر الأديان ، ويؤمن أهل الكتاب ، طوعاً أو كرهاً ، ويكون الدين كله للّه ، فلا يحتاج إلى قتال . وقال الحسن : معناه ، : حتى لا يُعبد إلا الله . وقال ابن عطية : ظاهر اللفظ : أنها استعارة ، يُراد بها التزام الأمر كذلك أبداً ، كما تقول : أنا أفعل ذلك إلى يوم القيامة . هـ . فالغاية بـ " حتى " راجعة إلى الضرب والشد ، وما ترتب عليه من المنّ والفداء . { ذلك } الأمر ذلك ، أو افعلوا ذلك ، { ولو يشاء اللّهُ لانتصرَ } لانتقم { منهم } بغير قتال بأن ينزل بهم أسباب الهلاك والاستئصال ، كالخسف أو الرجف أو غير ذلك ، { ولكن } أمركم بالقتال { ليَبلُوا بعضَكم ببعض } أي : المؤمنين بالكافرين ، فأمَرَهم بالجهاد ليستوجبوا الثواب العظيم ، وليسلم مَن سبق إسلامه من الكافرين . { والذين قاتلوا في سبيل الله } لإعلاء كلمة التوحيد ، لا لغرض آخر ، { فلن يُضِلَّ أعمالَهم } فلن يضيعها . { سيهديهمْ } في الدنيا إلى طريق الرشد والصواب ، وفي الآخرة إلى جزيل الثواب وقيل : يهديه إلى جواب منكر ونكير ، { ويُصلحُ بالَهم } بأن يَقبل أعمالهم ويُرضي خصماءهم ، { ويُدخلهم الجنةَ عَرَّفها لهم } . قال مجاهد : عرّفهم مساكنهم فيها حتى لا يحتاجوا إلى دليل لها ، أو : طَيَّبها ، من : العَرف ، وهو طيب الرائحة ، ويمكن الجمع : بأن عَرْف المحل يهدي صاحبَه إلى جنته ومحله . { يا أيها الذين آمنوا إِن تنصروا اللهَ } بنصر دينه وإظهار شريعة نبيه { ينصركمْ } على عدوكم ، ويفتح لكم ، { ويُثبت أقدامكم } في مواطن الحرب ومواقفها ، أو على محجة الإسلام ، { والذين كفروا فتعساً لهم } أي : فيقال : تعساً لهم ، والتعس : الهلاك ، أو السقوط والانحطاط ، أو العثار ، أو البُعد . وقال ابن السكيت : التعس : أن يجر على وجهه . هـ . أي : أتعسهم الله تعساً ، أي : أهلكهم وأبعدهم . وقال ابن عباس : " في الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة بالتردي في النار " . والمراد بالذين كفروا عام ، وقيل : المراد مَن يضاد الذين ينصرون دين الله ، كأنه قيل : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، ومَن لم ينصره فتعساً له ، فوضع { الذين كفروا } موضع مَن لم ينصره تغليظاً ، فهو وِفقٌ لأسلوب السورة من التقابل المعنوي ، فهو عطف جملة على جملة شرطية مثلها ، ولذلك دخلت الفاء في خبر الموصول ، كما قرره الزجاج . انظر الطيّبي . هـ . من الحاشية . { وأضَلَّ أعمالَهم } أي : أحبطها وأبطلها . { ذلك } التعس والإضلال { بأنهم كَرِهوا ما أنزلَ اللّهُ } من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام ، المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء ، { فأحْبَط } لأجل ذلك { أعمالَهم } التي كانوا عَمِلُوها ، من صلة الأرحام وغيرها . الإشارة : نهايةُ الجهاد الأصغر : وضعُ الحرب أوزارَها بالإسلام أو السّلم ، ونهاية الجهاد الأكبر : استسلامُ النفس وانقيادها لما يُراد منها ، أو موتها بالغيبة عنها بالكلية . قال بعض العارفين : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا . هـ . فالإشارةُ بقوله : { إذا لقيتم الذين كفروا … } الخ إلى قتل الهوى والشطيان وسائر القواطع ، حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا وثاقهم ، ولا تأمنوا غائلتهم . قال القشيري ، بعد كلام : وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه فلا ينبغي أن يُبْقِيَ بعد انتقَاش شَوْكها بقيةً ، ولا في قلع شجرها مستطاعاً وميسوراً فالحيّة إن بقيت منها بقية من الحياة مَنْ وضع عليها إصبُعَه بَثَّتْ سُمَّها فيه . هـ . فإذا تمكنتم من معرفة الله ، فإما أن تَمُنوا عليها بترك جِهادها الأكبر ، وإما أن تفدوها بالغيبة عنها في حلاوة الشهود ، حتى تضع الحرب أوزارها بالموت ، ولو شاء اللّهُ لخلّصكم منها من غير جهاد ، فالقدرة صالحة ، ولكن ليختبركم ، فيظهر السائرون من القاعدين مع حظوظهم " لولا ميادينُ النفوس ما تحقق سير السائرين " . والذين قاتلوا نفوسَهم في سبيل الله وطلب معرفته ، فلن يُضل أعمالَهم ، سيهديهم إلى معرفته ، ويُصلح بالهم بالاستغراق في شهوده ، ويُدخلهم جنة المعارف ، قد عرَّفها لهم ، وبيَّنها على أيدي الوسائط من الشيوخ العارفين ، أو طيّبها لهم ، فيهتدون بنسيم واردات التوجه ، إلى أنوار المواجهة . وقد أشار تعالى بقوله : { والذين قاتلوا في سبيل الله } إلى طلب الإخلاص ، فلا يوصل الجهاد الأصغر ولا الأكبر إلى رضوان الله ، أو معرفته ، إلا بتحقُّق الإخلاص ، من غير التفات لغرض نفساني ، لا عاجلاً ولا آجلاً . ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ : أن ميْسرة الخادم ، قال : غزونا في بعض الغزوات ، فإذا بفتى جانبي ، وهو مقنَّع بالحديد ، فحمل على الميمنة ، ثم الميسرة ، ثم على القلب ، ثم أنشأ يقول : @ أَحْسِنْ بمَولاكَ سَعيدُ ظنّاً هَذَا الذِي كُنتَ تَمَنَّى تَنَح يا حُورَ الْجنَانِ عَنَّا مَا فيك قَاتَلْنَا ولا قُتِلْنا لكِنْ إِلى سَيدكُنَّ اشْتَقْنَا قَدْ عَلِم السر وما أَعْلَنَّا @@ قال : فحمَل فقاتل ، فقَتَل منهم عدداً ، ثم رجع إلى موقفِه ، فتكالب عليه العدو ، فحملَ ، وأنشأ يقول : @ قد كُنْتُ أَرْجُو وَرَجَائي لَمْ يَخِبْ أَلاَّ يَضيعَ الْيَومَ كَدِّي والطَّلَبْ يا مَن ملأ تِلْكَ الْقُصُورِ باللعب لَولاَكَ مَا طَابَتْ ولاَ طَابَ الطَّرَب ْ @@ ثم حمَلَ فقاتل ، فقَتل عدداً كثيرا ، ثم رجع إلى مصافه ، فتكالب عليه العدو ، فحملَ ثالثة ، وأنشأ يقول : @ يَا لُعبةَ الْخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسْمَعِي ما لَكِ قَاتَلْنَا فَكُفّي وَارْجِعي ثُمَّ ارْجِعِي إلى الْجِنَانِ وأَسْرعي لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي @@ فقاتل رضي الله عنه حتى قُتل - رحمه الله . هـ . قوله تعالى : { إِن تنصروا الله ينصركمْ ويُثبتْ أقدامكمْ } فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير ، الداعين إلى الله ، الذين يسعون في أظهار الدين ، وإرشاد عباد الله إلى محبة الله وطاعته . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ، لئن شئتم لأقسمن لكم ، أن أحب عباد الله إلى الله الذين يُحببون اللّهَ إلى عباده ، ويُحببون عبادَ اللهَ إلى الله ، ويمشون في الأرض بالنصيحة " وقال أيضاً : " الخلق عيال الله ، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله " وأعظم النفع : إرشادهم إلى الله ، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية . وقال الورتجبي : نُصرةُ العبد لله : أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه ، فإنهم أعداؤه ، فإذا خاصمها يُقويه الله وينصره عليهم ، بأن يدفع شرهم عنه ، ويجعله مستقيماً في طاعة الله ، ويجازيه بكشف جماله ، حتى يَثْبُتَ في مقام العبودية ، وانكشاف أنوار الربوبية . هـ . قال القشيري : ونصرةُ الله للعبد بإعلاء كلمته ، وقمع أعدائه . ثم قال في قوله تعالى : { ويُثبت أقدامكم } هو إدامة التوفيق ، لئلا ينهزم من صَوْلة أعداء الدين ، ولا يَضعُف قلبُه في معاداتهم ، ولا ينكسر باطنُه ثقةً بالله في إعزازِ دينه . هـ . ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى الله ، الناصرين لدينه ، وهم المنتقدون عليهم ، فقال : { والذين كفروا فتسعاً لهم } أي : خيبةً لهم ، { وأضل أعمالهم } فلا يتوصلون بها إلى معرفته ، لكونها معلولة . ثم أمر بالتفكُّر والنظر لأنه أقرب الطرق إلى التخلُّص من غوائل الأعداء ، فقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ } .