Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 11-14)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { سيقولُ لك } يا محمد إذا رجعت من الحديبية { المخلَّفون من الأعراب } وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غِفَار ، ومُزَيْنةُ ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، والديل ، وذلك انه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة ، عام الحديبية ، معتمراً ، استنفر مَن حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ، ليخرجوا معه ، حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدُّوه عن البيت ، وأحرم صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي لِيُعْلمَ أنه لا يريد حرباً ، فتثاقل كثير من الأعراب ، وقالوا : نذهب إلى قوم غَزوهُ في داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم ، وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة ، فأوحى الله تعالى إليه ما قالوا ، حيث تعلّلوا وقالوا : { شَغَلنا أموالُنا وأهلُونا } ولم يكن تخلُّفنا عنك اختياراً ، بل عن اضطرار ، { فاستغفر لنا } فأكذبهم الله بقوله : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } فليس تخلُّفهم لأجل ذلك ، وإنما تخلَّفوا شكّاً ونفاقاً ، وطلبُهم الاستغفار أيضاً ليس بصادرٍ عن حقيقة . { قل } لهم : { فمَن يملك لكم من الله شيئاً } فمَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه { إِن أراد بكم ضَرّاً } أي : ما يضركم من هلاك الأهل ، والمال وضياعها ، حتى تخلّفتم عن الخروج لحفظها ، { أو أراد بكم نفعاً } أي : مَن يقدر على ضَرَكم إن أراد بكم نزول من ينفعكم ، من حفظ أموالكم وأهليكم ، فأيّ حاجة إلى التخلُّف لأجل القيام بحفظهما والأمر كله بيد الله ؟ { بل كان الله بما تعملون خبيراً } إضراب عما قالوه ، وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه ، أي : ليس الأمر كما يقولون ، بل كان الله خبيراً بجميع الأعمال ، التي من جملتها تخلُّفكم وما هو سببه ، فلا ينفعكم الكذب مع علم الله بجميع أسراركم . { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسولُ والمؤمنون إِلى أهليهم أبداً } بأن يستأصلهم المشركون بالموت ، فخشيتم إن كنتم معهم أن يُصيبكم ذلك ، فتخلّفتم لأجل ذلك ، لا لما ذكرتم من المعاذيرالباطلة ، { وزُيِّنَ ذلك في قلوبكم } زيّنه الشيطانُ وقبلتموه ، واشتغلتم بشأن أنفسكم ، غير مبالين بهم ، { وظننتم ظنَّ السَّوء } والمراد به الظن الأول ، والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء ، أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة ، كعلو الكفر ، وظهور الفساد ، وعدم صحة رسالته صلى الله عليه وسلم ، فإن الجازم بصحتها لا يحول حول فكره هذه الظنون الباطلة ، { وكنتم قوماً بُوراً } هالكين عند الله ، مستوجبين لسخطه وعقابه ، جمع : بائر ، كعائذ وعُوذ ، من بار الشيء : هلك وفسد ، أي : كنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم . { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإِنّا أعتدنا } أعددنا { للكافرين } أي : لهم ، فأٌقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن مَن لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر مستوجب العسير . ونكَّر { سعيراً } لأنها نار مخصوصة ، كما نكَّر { نَاراً تَلَظَّى } [ الليل : 14 ] . وهذا كلام وارد من قِبله تعالى ، غر داخل في الكلام المتقدم ، مُقرر لبوارهم ، ومُبيّن لكيفيته ، أي : ومَن لم يؤمن كهؤلاء المتخلفين ، فإنا أعتدنا له سعيراً يحترق بها . { ولله مُلكُ السماوات والأرض } يُدبره تدبير قادر حكيم ، ويتصرف فيهما وفيما بينهما كيف يشاء ، { يغفر لمن يشاء ويُعذِّب من يشاء } بقدرته وحكمته ، من غير دخل لأحد في شيء ، ومن حكمته : مغفرته للمؤمنين وتعذيبه للكافرين . { وكان الله غفوراً رحيماً } مبالغاً في المغفرة والرحمة لمَن يشاء ، أي : لمَن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله ، وأما مَن عداه من الكفر فبمعزل من ذلك قطعاً . الإشارة : هذه الآية تَجُر ذيلها على مَن تخلّف من المريدين عن زيادة المشايخ من غير عُذر بيِّن ، واعتذر بأعذار كاذبة ، يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وما زالت الأشياخ تقول : كل شيء يُسمح فيه إلا القدوم إذ به تحصل التربية والترقية ، وتقول أيضاً : مَن جلس عنا لعذر صحيح عذرناه ، وربما يصل إليه المدد في موضعه ، ومَن جلس لغير عذر لا نُسامح له ، بل يُحرم من زيادة الإمداد ، ومن الترقي في المقامات والأسرار ، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم ، وحُرموا السير والوصول ، فكل مريد شغله عن زيادة شيخه أهلُه ومالُه لا يأتي منه شيء . قل : فمَن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً ، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال ، أو : أراد بكم نفعاً ، بأن وصلكم إليه ، وغيَّب عنكم أهلكم ومالكم ، بل كان الله بما تعملون خبيراً ، يعلم مَن تخلّف لعذر صحيح ، أو لعذر باطل ، وبالله التوفيق . ثم قال : { سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ } .