Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 112-115)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { يا عيسى ابن مريم } : ابن هنا بدل ، ولذلك كتب بالألف ، و { أن ينزل } : مفعول { يستطيع } ، ومن قرأ بالخطاب ، فمفعول بالمصدر المقدر ، أي : سؤال ربك إنزال مائدة ، و { لأولنا وآخرنا } : بدل كل ، من ضمير { لنا } ، لإفادته الإحاطة والشمول كالتوكيد ، وذلك : شرط إبدال الظاهر من ضمير الحاضر ، وأعيدت اللام مع البدل للفصل ، وضمير { لا أعذبه } : نائب عن المصدر ، أي : لا أعذب ذلك التعذيب أحدًا . يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } أي : هل يطيعك ربك في هذا الأمر ، أم لا ؟ فالاستفهام عن الإسعاف في القدرة ، فهو كقول بعض الصحابة لعبد الله بن زيد : هل تستطيع أن ترينا كيف كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ مع جزمهم بأن عبدالله كان قادرًا على تعليمهم الوضوء . فالحواريون جازمون بأن الله تعالى قادر على إنزال المائدة ، لكنهم شكوا في إسعافه على ذلك . قال ابن عباس : كان الحواريون أعلم بالله من أن يشكو أن الله تعالى يقدر على ذلك ، وإنما معناه ، هل يستطيع لك أي : هل يطيعك ، ومثله عن عائشة ، وقد أثنى الله تعالى على الحواريين ، في مواضع من كتابه ، فدل أنهم مؤمنون كاملون في الإيمان . قال لهم عيسى عليه السلام : { اتقوا الله } من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات ، { إن كنتم مؤمنين } بكمال قدرته وصحة نبوتي ، فإنّ كمال الإيمان يوجب الحياء من طلب المعجزة ، { قالوا نريد أن نأكل منها } أكلاً نتشرف به بين الناس ، وليس مرادهم شهوة البطن ، { وتطمئن قلوبنا } بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال ، أي : نعاين الآية ضرورة ومُشاهدة ، فلا تعرض لنا الشكوك التي في الاستدلال ، { ونعلم أن قد صدقتنا } علمًا ضروريًا لا يختلجه وهم ولا شك ، { ونكون عليها من الشاهدين } أي : نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس ، أو من الشاهدين للعين ، دون السامعين للخبر ، وليس الخبر كالعيان ، والحاصل : أنهم أرادوا الترقي إلى عين اليقين ، دون الأكتفاء بعلم اليقين . { قال عيسى ابن مريم } مسعفًا لهم لما رأى لهم غرضًا صحيحًا في ذلك ، رُوِي أنه لبس جُبَّةَ شعر ، ورداء شعر وقام يصلي ويدعو ويبكي ، وقال : { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا } أي : لمتقدمنا ومتأخرنا ، يعود علينا وقت نزولها كل عام بالفرح والسرور ، فنتخذه عيدًا نحن ومن يأتي بعدنا ، { و } يكون نزولها { آية منك } على كمال قدرتك وصحة نبوتي ، { وارزقنا } المائدة والشكر عليها ، { وأنت خير الرازقين } أي : خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض ، ونسبة الرزق إلى غيره مجاز . { قال الله إني منزلها عليكم } كما طلبتم ، { فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين } أي : من عالمي زمانهم ، أو مطلقًا . قال ابن عمر : أشد الناس عذابًا يوم القيامة : من كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، والمنافقون . رُوِي أنها نزلت سُفرة حمراء بين غمامتين ، وهم ينظرون إليها ، حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ، ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ، ثم كشف المنديل ، وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية ، تسيل دسمًا وعند ذنبها خل ، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث ، وخمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، قال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة ؟ قال : ليس منهما ، ولكنه اخترعه الله بقدرته ، كلوا ما سألتم ، واشكروا الله يمدُدكم ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال : يا سمكة : احيَى بإذن الله ، فاضطربت ، ثم قال لها : عودي ، فعادت كما كانت ، فعادت مشوية ، ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا . وقيل : كانت تأتيهم أربعين يومًا ، غِبًّا ، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار ، يأكلون ، فإذا فرغوا ، طارت وهم ينظرون في ظلها ، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره ، ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبدًا ، ثم أوحى الله إلى عيسى : أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطرب الناس ، فمسخ منهم ثلاثة وثمانون . وقيل : لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة ، استغفروا وقالوا : لا نريد ، فلم تنزل . قلت : المشهور أنها نزلت ، ويحكى أن أرجلها باقية بجزيرة الأندلس . والله تعالى أعلم . الإشارة : في سؤال الحواريين لسيدنا عيسى عليه السلام قلة آدب من وجهين : أحدهما : خطابه بقوله : { يا عيسى ابن مريم } وقد كانت هذه الأمة المحمدية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ، يا نبي الله ، لكمال أدبها ، وبذلك شرفت وعظم قدرها ، فالأدب عند الصوفية ركن عظيم ، بل هو روح التصوف وقطب دائرته ، قال بعضهم : اجعل عملك ملحًا ، وأدبك دقيقًا ، والكلام فيه عندهم طويل شهير . والوجه الثاني : ما في قولهم : { هل يستطيع ربك } من بشاعة التعبير ، وسوء اللفظ ، حتى اتهموا بالكفر من أجله ، وقد تقدم تأويله ، وأما سؤالهم المائدة ، فقال بعض الصوفية : هي عبارة عن المعارف والأسرار الربانية التي هي قوت الأرواح السماوية ، فقوت الأشباح الأرضية ما يخرج من الأرض من الأقوات الحسية ، وقوت الأرواح السماوية ما ينزل من السماء من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، ينزل على قلوب العارفين ، ثم يبرز منها إلى قلوب عائلة المستمعين ، ولما طلبوها قبل إبانها وقبل الاستعداد لها ، قال لهم : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ، فلما ألحوا في السؤال ، بيَّن الحق لهم أن إنزالها سهل على قدرته ، لكن فيه خطر وسوء عاقبة ، لأن الحقائق قد تضر بالمريد إذا لم يكمل أدبه واستعداده ، فلما بينوا مرادهم من كمال الطمأنينة واليقين دعا الله تعالى فوعدهم بالإنزال مع دوام الإيمان وكمال الإيقان ، فمن كفر بها ، ولم يعرف قدرها ، عذب بعذاب لم يعذبه أحد من العالمين ، وهو الطرد والبعد من ساحة حضرة رب العالمين . والله تعالى أعلم . ثم وبخ مَن عبد عيسى من الكفرة ، فقال : { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ } .