Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 21-26)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { فتنقلبوا } : منصوب بأن في جواب النهي ، أو عطف على المجزوم ، و { ما داموا } : بدل من { أبدًا } بدل بعض ، و { أخي } يحتمل النصب عطف على { نفسي } ، أو رفع عطف على { أن } مع اسمها ، أو مبتدأ حُذف خبره ، أو جر عطف على ياء المضاف ، على مذهب الكوفيين . يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا عن موسى عليه السلام ـ : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة } أرض بيت المقدس ، قدسها الله ، حيث جعلها قرار أنبيائه ومسكن المؤمنين . وفي مدحها أحاديث كثيرة . وقيل : الطور وما حوله ، أو دمشق وفلسطين ، أو الشام ، { التي كتب الله لكم } أي : التي كتب الله في اللوح المحفوظ ، أنها لكم مسكنًا إن جاهدتم وأطعتم نبيكم ، { ولا ترتدوا على أدباركم } أي : لا ترجعوا مدبرين هاربين خوفًا من الجبابرة ، أو : لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان ، وعدم الوثوق بالله ، { فتنقلبوا خاسرين } الدنيا والآخرة . رُوِي أنهم لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا ، وقالوا : ليتنا متنا بمصر ، تعالوا نجعل علينا رأسًا ينصرف بنا إلى مصر ، ثم { قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين } أقوياء متغالبين ، لا طاقة لنا بمقاومتهم ، وهم قوم من العمالقة ، من بقية قوم عاد ، { وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } بأمر سماوي ، أو يُسلط عليهم من يخرجهم من غيرها ، { فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } فيها . { قال رجلان } كالب بن يوقنّا ، ويوشع بن نون ابن آخت موسى وخادمه { من الذين يخافون } الله ، أو رجلان من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى ، وعليه قراءة { يُخافان } بضم الياء ، { أنعم الله عليهما } بالإسلام والتثبت ، قالا : { ادخلوا عليهم الباب } أي : باب المدينة ، أي : باغِتوهم بالقتال ، { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } أي : ظاهرون عليهم ، فإنهم أجسام لا قلوب فيها . يحتمل أن يكون علمهما بذلك من قِبل موسى ، أو من قوله تعالى : { التي كتب الله لكم } ، أو من عادته سبحانه في نصر رسله وأوليائه ، وما عَهِدا من صنيعه تعالى مع موسى من قهر أعدائه . ثم قال : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } به ، ومصدقين لوعده . { قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها } ، وهذا من تعنتهم وعصيانهم ، وأشنعُ منه قولهم : { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ، قالوه استهزاء بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما ، وانظر فضيلة الأمة المحمدية ، وكمال أدبها مع نبيها عليه الصلاة والسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الحديبية لأصحابه حين صُد عن البيت : إني ذاهب بالهدي فناحِرُه عند البيت ، فقال المقداد بنُ الأسود : أما والله ما تقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فاذهب أنت وربك فقَاتلا إنا هاهنا قاعدون } ، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك ، ومن بين يديك من خلفك ، ولو خُضت البحر لخضناه معك ، ولو تسنَمت جبلاً لعلوناه معك ، ولو ذهبت بنا إلى بَرك الغماد لتبعناك ، فلما سمعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تابعوه على ذلك فَسُرَ صلى الله عليه وسلم وأشرق وجهه . هـ . ولما سمع موسى مقالة قومه له غضب ، ودعا ربه فقال : { ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي } أي : لا أثق إلا بنفسي وأخي ، ولا قدرة لي على غيرهما ، والرجلان المذكوران ، وإن كانا موافقين له ، لكنه لم يوثق عليهما ، لما كبد من تلوّن قومه ، ثم دعا عليهم فقال : { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } أي : احكم بيننا وبينهم بما يستحق كل واحد منا ومنهم ، أو بالتبعيد بيننا وبينهم ، وتخليصنا من صحبتهم . رُوِي أنه لما دعا عليهم ظهر فوقهم الغمام ، وأوحى الله إليه : يا موسى إلى متى يعصي هذا الشعب ؟ لأُهلكنهم جميعًا ، فشفع فيهم موسى عليه السلام فقال الله تعالى له : قد غفرت لهم بشفاعتك ، ولكن بعد ما سَميتَهم فاسقين ، ودعوت عليهم ، بي حلفت لأحرمنَّ عليهم دخول الأرض المقدسة ، وذلك قوله تعالى : { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } يحتمل أن يكون " أربعين " متعلقًا بمحرمة ، فيكون التحريم عليهم مؤقتًا غير مؤبد فيوافق ظاهر قوله : { التي كتب الله لكم } . ويؤيد هذا ما رُوِي أن موسى عليه السلام لما خرج من التيه ، سار بمن بقي معه من بني إسرائيل ، ويوشع على مقدمته ، ففتح بيت المقدس ، فبقي فيها ما شاء الله ، ثم قبض . ويحتمل أن يكون " أربعين " متعلقًا ب { يتيهون } ، فيكون التحريم مؤبدًا ، وعلى هذا لم يبق أحد ممن دخل التيه إلا يوشع وكالب ، ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال له : { اذهب أنت وربك … } ، بل كلهم هلكوا في التيه ، وإنما دخلها أشياعهم . رُوِي أن موسى عليه السلام لما حضره الموت في التيه أخبرهم بأن يوشع بعده نبي ، وأن الله أمره بقتال الجبابرة ، فسار بهم يوشع ، وقاتل الجبابرة وكان القتال يوم الجمعة ، فبقيت منهم بقية ، وكادت الشمس أن تغرب ليلة السبت ، فخشي أن يعجزوه ، فقال : اللهم اردد الشمس عليَّ ، وقال للشمس : إنك في طاعة الله وأنا في طاعته ، فوقفت مثل يوم حتى قتلهم ، ثم قتل ملوك الأرمانيين ، وقتل مِن ملوك الشام أحدًا وثلاثين ملكًا ، فصارت الشام كلها لبني إسرائيل ، وفرَّق عماله في تواحيها ، وبقيت بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض في ستة فراسخ ، بين فلسطين وأيلة ، متحيرين ، يسيرون من الصباح إلى السماء جادين في السير ، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، ثم يسيرون بالليل كذلك فيصبحون حيث ارتحلوا ، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم ، وكان طعامهم المن والسلوى ، وماؤهم من الحجر الذي يحمله موسى ، واختلف في الكسوة ، فقيل : أبقى الله كسوتهم معجزة لموسى ، وقيل : كساهم مثل الظفر . والأكثر أن موسى وهارون كانا معهم زيادة في درجاتهما ، وكان عقوبة لقومهما وأنهما ماتا فيه ، مات هارون أولاً ودفنه أخوه في كهف ، وقيل : رُفع على سرير في قبة ، ثم مات موسى عليه السلام ودفن بقرب من الأرض المقدسة ، رمية بحجر ، كما في الحديث ، ثم دخل يوشع الأرض المقدسة بعد ثلاثة أشهر . والله تعالى أعلم . ثم قال تعالى لموسى عليه السلام : { فلا تأس } أي : لا تخزن ، { على القوم الفاسقين } ، خاطبه الحق تعالى بذلك لمَّا ندم على الدعاء عليهم ، فقال له : أنهم أحق بذلك لفسقهم وعصيانهم . الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه من المريدين : ادخلوا الحضرة المقدسة التي كتب الله لكم ، إن دمتم على جهاد أنفسكم ، وصدقتم في طلب ربكم ، وبقيتم في تربية شيوخكم ، ولا ترتدوا على أدباركم بالرجوع عن صحبة شيوخكم من الملل مع طول الأمل ، قتنقلبوا خاسرين ، فإن حضرتي محفوفة بالمكاره ، والطريقة الموصلة إليها مرصودة للقواطع والعوائق ، فإن كان ممن لم يكتب له فيها نصيب ، قال : لن ندخلها أبدًا ما دام القواطع فيها ، ورجع على عقبيه ، يتيه في مهامه شكوكه وأوهامه ، وإن كان ممن سبقت له العناية وحقت به الرعاية قال : { ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، فيبادر إلى قتل نفسه ، من غير تأن ولا خوف ولا فزع ، فحضرة التحقيق لا ينالها إلا الشجعان ، ولا يسكنها إلا الأكابر من أهل العرفان وإلى ذلك أشار صاحب العينية بقوله : @ وإيَّاك جَزعًا لا يَهُولُكَ أمرُهَا فَمَا نَالَهَا إلا الشُّجاعُ المُقّارعُ @@ وقال الورتجبي في قوله تعالى : { لا أملك إلا نفسي وأخي } : من بلغ عين التمكين ملك نفسه وملك نفوس المريدين لأنه عرفها بمعرفة الله ، وقمعها من الله بسلطان سائس قاهر ، من نظر إليه يفزع من الله ، لا يطيق عصيانه ظاهرًا وباطنًا ، فأخبر عليه السلام عن محلّ تمكينه وقدرته على نفسه ونفس أخيه ، وأعلمنا أن بينهما اتحادًا ، بحيث إنه إذا حكم على نفسه صار نفس أخيه مطمئنة طائعة لله بالانفعال . قال صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون كنفس واحدة " . ثم تكلم الحقّ جلّ جلاله على بقية حفظ الأبدان ، فبيَّن أول مَن سَنَّ القتل ووبَال من تَبعِه ، فقال : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ } .