Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 32-32)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً … } قلت : { من أجل ذلك } : يتعلق بكتبنا ، فيوقف على ما قبله ، وقيل : بالنادمين ، فيوقف على { ذلك } ، وهو ضعيف ، قاله ابن جزي ، وأصل { أجْل } : مصدر أجُل يأجل ، كأخذ يأخذ ، أجلاً ، أي : جنا جناية ، استعمل في تعليل الجنايات ، ثم اتسع فيه ، فاستعمل في كل تعليل . يقول الحقّ جلّ جلاله : { من أجل ذلك } القتل الذي صدر من قابيل لأخيه هابيل ، وما نشأ عنه من التجرؤ على الدماء والمفاسد ، حيث سَنَّه أولاً ولم يكن يعرفه أحد ، فاقتدى به من بعده ، { كتبنا على بني إسرائيل } في التوراة الذي حكمه متصل بشريعتكم ، { أنه من قتل نفسًا بغير نفس } أي : في غير قصاص ، وبغير فساد في الأرض ، كقطع الطريق والكفر ، { فكأنما قتل الناس جميعًا } من حيث إنه هتك حرمة الدماء ، وسن القتل ، وجرأ الناس عليه . وفي البخاري عن ابن مسعود قال : قال صلى الله عليه وسلم : " لا تُقتَلُ نَفسٌ مسلمةٌ بغير حق إلاَّ كَانَ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ من دَمِها ، لأنَّهُ أوَّلُ من سَنَّ القَتل " أو من حيث إن قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم ، أو يكون الناس خصماءه يوم القيامة لأن هتك حرمة البعض كالكل . { ومن أحياها } أي : تسبب في حياتها بعفو أو منع من القتل ، أو استقباء من بعض أسباب الهلكة كإنقاذ الغريق والحريق وشبه ذلك ، { فكأنما أحيا الناس جميعًا } أُعطِي من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا ، وفي البخاري : " من أحياها أي مَن حَرَّمَ قتلَها إلا بحق حيى الناس منه جميعًا " قال ابن جزي : والقصد بالآية تعظيم قتل النفس والتشديد فيه ، ليزدجر الناس عنه وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه . هـ . فما كتبه الله على بني إسرائيل هو أيضًا شرع لنا . قال أبو سعيد : والذي لا إله إلا هو ما جعل دم بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا . وإنما خصّهم بالذكر لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب ، وغلظ عليهم بسبب طغيانهم ، ولتلوح مذمتهم . انظر ابن عطية . وعنه صلى الله عليه وسلم : " مَن سَقَى مؤمنًا شربَة ماء والماءُ موجودٌ ، فكأنما أعتقَ سبعين رقبة ، ومَن سقَى في غيرِ مَوطِنِه فكأنَّما أحيا الناس جميعًا " . الإشارة : كل من صدَّ نفسًا عن إحياء قلبها وعوّقها عن من يُعَرِّفُها بربها فكأنما قتلها ، ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا لأن المؤمنين كلهم كالجسد الواحد ، كما في الحديث ، ومن أحياها بأن أنقذها من الغفلة إلى اليقظة ، ومن الجهل إلى المعرفة ، فكأنما أحيا الناس جميعًا لأن الأرواح جنس واحد ، فإحياء البعض كإحياء الكل . وبهذا يظهر شرف مقدار العارفين ، الدالين على الله ، الدعاة إلى معرفة الله ، الذين أحيا الله بهم البلاد والعباد ، وفي بعض الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسُ محمدٍ بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم : إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون اللهُ إلى عبادهِ ، ويحببون عبادَ اللهِ إلى اللهِ ، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة " . وهذه حالة شيوخ التربية : يحببون الله إلى عباده لأنهم يطهرون القلوب من دنس الغفلة حتى ينكشف لها جمال الحق فتحبه وتعشقه ، ويذكرون لهم إحسانه تعالى وآلاءه فيحبونه ، فإذا أحبوه أطاعوه فيحبهم الله ويقربهم ، والله تعالى أعلم . وقال الورتجبي : فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه أن النية إذا وقعت من قبل النفس الأمارة في شيء ، وباشرته ، فكأنما باشرت جميع عصيان الله تعالى لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت ، لأنها أمارة بالسوء ، ومن السوء خلقت ، فالجزاء يتعلق بالنية . وكذلك إذا وقعت النية من قبل القلب الروحاني في خير ، وباشره ، فكأنه باشر جميع الخيرات لأنه لو قدر لفعل . قال صلى الله عليه وسلم " نيةُ المؤمن أبلغُ مَن عَمله " . وفيه إشارة أخرى أن الله سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة ، بعضها من بعض وصرَّفها مختلفة ، وتعلقت بضعها من بعض من جهة الاستعداد والخلقة . فمن قتل واحدًا منها أثرَّ قتلها في جميع النفوس عالمة بذلك أو جاهلة ، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر الله وتوحيده ، ووصف جلاله وجماله ، حتى تحب خالقها ، وتحيا بمعرفته ، وجمال مشاهدته ، فأثِرِ حياتها وتزكيتها في جميع النفوس ، فكأنما أحيا جميع النفوس . وفيه تهديد لأئمة الضلالة ، وعز وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى . انتهى كلامه . وقوله في النفس الأمارة : من السوء خلقت ، فيه نظر فإن النفس هي الروح عند المحققين ، فما دامت الطينية غالبة عليها ، وهي مائلة إلى الحظوظ والهوى ، سميت نفسًا ، فإن كانت منهمكة سميت أمارة ، وإن خف عثارها ، وغلب عليها الخوف ، سميت لوامة ، فإذا انكشف عنها الحجاب ، وعرَفت ربها ، واستراحت من تعب المجاهدة ، سميت روحًا ، وإن تطهرت من غبش الحس بالكلية سميت سرًا ، وأصلها من حيث هي نور رباني وسر لاهوتي . ولذلك قال تعالى فيها : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِي } [ الإسرَاء : 85 ] ، فالسوء عارض لها ، لا ذاتي ، فما خلقت إلا من نور القدس . والله تعالى أعلم . ثم عاتب بني إسرائيل على سفك الدماء والإفساد في الأرض ، بعد ما حرم ذلك عليهم في التوراة ، فقال : { … وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد جاءتهم } أي : بني إسرائيل ، { رُسلنا بالبينات } أي : بالمعجزات الواضحات ، { ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } بسفك الدماء وكثرة المعاصي . قال البيضاوي : أي : بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل إتيان تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر وتجديدًا للعهد ، كي يتحاموا عنها ، كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون ، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها ، والإسراف : التباعد عن حد الاعتدال في الأمر . هـ . الإشارة : قد قيض الله لهذه الأمة المحمدية من يقوم بأمر دينها ، ظاهراً وباطنًا ، وهم ورثته في الظاهر والباطن ، وفي الخبر : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ، فلكل زمان رجال يقومون بالشريعة الظاهرة وهم العلماء ، ورجال يقومون بالحقيقة الباطنة ، وهم الأولياء ، فمن قصر في الجهتين قامت عليه الحجة ، ولله الحجة البالغة ، فمن أسرف أو طغى أدبته الشريعة وأبعدته الحقيقة . وبالله التوفيق . ثم ذكر وبال المسرفين من بني إسرائيل وغيرهم ، فقال : { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } .