Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 62-64)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { لولا } : إذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وترى } يا محمد ، أو يا من تصح منه الرؤية { كثيرًا } من اليهود { يسارعون في الإثم } أي : في الذنوب والمعاصي المتعلقة بهم في أنفسهم { والعدوان } المتعلقة بغيرهم ، كالتعدي على أموال الغير وأعراضهم وأبدانهم ، { وأكلهم السحت } : الحرام كالرشا والربا وغير ذلك ، { لبئس ما كانوا يعملون } أي : قبح عملهم بذلك ، وتناهى في القبح . { لولا ينهاهم } أي : هلا ينهاهم { الربانيون } أي : عُبّادُهم ورهبانهم ، { والأحبار } أي : علماؤهم وأساقفتهم ، { عن قولهم الإثم } أي : الكذب ، { وأكلهم السحت } : الحرام ، { لبئس ما كانوا يصنعون } من السكوت عنهم ، وعدم الإنكار عليهم ، عبّر أولاً بيعلمون وثانيًا بيصنعون لأن الصنع أبلغ ، ولأن الصنع عمل بعد تدريب وتدقيق وتحري إجادته وجودته ، بخلاف العمل ، ولا شك أن ترك التغيير والسكوت على المعاصي من العلماء وأولى الأمر أقبح وأشنع من مواقعة المعاصي ، فكان جديرًا بأبلغ الذم ، وأيضًا : ترك التغيير لا يخلوا من تصنع ، فناسب التعبير بيصنعون ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَا مِن رَجُل يُجَاورُ قَومًا فَيَعمَلُ بالمَعَاصِي بَين أظْهُرِهم إلاَّ أوشَكَ اللهُ تَعَالَى أن يَعُمَّهُمُ مِنه بِعِقَاب " وقد قال تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [ الأنفَال : 25 ] ، فالوبال الذي يترتب على ترك الحسبة أعظم من الوبال الذي يترتب على المعصية ، فكان التوبيخ على ترك الحسبة أعظم . ثم نعى عليهم مقالاتهم الشنيعة ، التي هي من جملة قولهم الإثم ، فقال : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } أي : مقبوضة عن بسط الرزق . رُوِي أن اليهود أصابتهم سنة جدبة بشؤم تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه المقالة الشنيعة ، والذي قالها فِنحاص ، ونسبت إلى جملتهم لأنهم رضوا بقوله ، فعل اليد كناية عن البخل ، وبسطها كناية عن الجود ، ومنه : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسرَاء : 29 ] . ثم رد عليهم فقال : { غُلّت أيديهم } ، يحتمل أن يكون دعاءً أو خبرًا ، ويحتمل أن يكون في الدنيا بالأسر والقبض ، أو في الآخرة بجعل الأغلال فيها إلى عنقهم في جهنم ، قال تعالى : { بل يداه مبسوطتان } ، أي : نعمه مبسوطة على عباده ، سحاء عليهم ، الليل والنهار ، وإنما ثنيت اليدان عنها ، وأفردت في قول اليهود ليكون أبلغ في الرد عليهم ، ومبالغة في وصفه تعالى بالجود والكرم ، كما تقول : فلان يعطي بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء ، أو كناية عن نعم الدنيا والآخرة ، أو عن ما يعطيه استدارجًا وما يعطيه للإكرام . ثم أكده بقوله : { يُنفق كيف يشاء } أي : هو مختار في إنفاقه ، يوسع تارة ويضيق تارة أخرى ، على حسب مشيئته ومقتضى حكمته . ولمّا عميت بصيرتهم بالكفر ، وقست قلوبهم بالذنوب ، كانوا كلما ازدادوا تذكيرًا بالقرآن ، زادوا في العتو والطغيان ، كما قال تعالى : { وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا } إذ هم متعصبون بالكفر والطغيان ، ويزدادون طغيانًا وكفرًا بما يسمعون من القرآن ، كما يزداد المريض مرضًا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء . ومن مساوئهم أيضًا : تفريق قلوبهم بالعداوة والشحناء ، كما قال تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } فلا تتوافق قلوبهم ولا تجتمع آراؤهم { كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله } أي : كلما أرادوا حرب الرسول عليه الصلاة والسلام وإثارة شر عليه ، ردهم الله ، وأبطل كيدهم ، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم ، أو : كلما أرادوا حرب عدو لهم هزمهم الله ، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمون . فكان شأنهم الفساد ، ولذلك قال تعالى فيهم : { ويسعون في الأرض فسادًا } أي : الفساد بإثارة الحروب والفتن ، وهتك المحارم ، واجتهادهم في الحيل والخدع للمسلمين ، { والله لا يحب المفسدين } أي : لا يرضى فعلهم فلا يجازيهم إلا شرًّا وعقوبة . الإشارة : قال الورتجبي : في الآية تحذير الربانيين العارفين بالله وبحقوق الله ، والأحبار العلماء بالله وبعذاب الله لمن عصاه ، وبثواب الله لمن أطاعه لئلا يسكنوا عن الزجر للمبطلين والمغالطين ، المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس ، وبيّن تعالى أن من داهن في دينه عذب وإن كان ربانيًا . هـ . وفي بعض الأثر : " إذا رأى العالمُ المنكَر وسكت ، فعليه لعنة الله " . والذي يظهر أن نهي الربانيين يكون بالهمة والحال ، كقضية معروف الكرخي وغيره ونهي الأحبار يكون بالمقال ، وقد تقدم هذا . والله تعالى أعلم . ثم ندبهم إلى الإسلام فقال : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ آمَنُواْ } .