Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 94-96)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { فجزاء } : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فعليه جزاء ، أو خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : فواجبه جزاء ، و { مثل } : صفته ، و { من النعم } : صفة ثانية لجزاء ، أي : فعلية جزاء مماثل حاصل من النعم ، ومن قرأ { مثل } بالجر ، فعلى الإضافة ، من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : فعليه أن يجزي مثل ما قتل ، أو يكون { مثل } مقحمة كما في قولهم : مثلى لا يقول كذا . وقرىء بالنصب ، أي : فليجزأ جزاء مماثلاً . وجملة { يحكم } صفة لجزاء أيضًا ، أو حال من ضمير الخبر . و { هَدْيًا } : حال من ضمير { به } ، أو من جزاء لتخصيصه بالإضافة أو الصفة فيمن نون ، و { بالغ } : صفة للحال ، أو بدل من مثل باعتبار محله ، أو لفظه فيمن نصبه ، أو { كفارة } عطف على { جزاء } إن رفعته ، وإن نصبت جزاء فهو خبر ، أي : وعليه كفارة ، و { طعام مساكين } : عطف بيان ، أو بدل منه ، أو خبر عن محذوف ، أي : هي طعام ، ومَن جرّ طعامًا فبالإضافة للبيان ، كقوله : خاتم فضة ، أو { عدل } عطف على { طعام } فيمن رفعه ، أو خبر فيمن جره ، أي : عليه كفارة طعام ، أو عليه عدل ذلك ، و { ليذوق } : متعلق بمحذوف ، أي : فيجب عليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة فعله ، و { متاعًا لكم } : مفعول من أجله ، و { حُرُمًا } : حال ، أي : ما دمتم محرمين ، أو خبر دام على النقص ، ويقال : دام يدوم دُمت ، كقال يقول قلت : ودام يَدام دِمت ، كخاف يخاف خفت . وبه قٌرىء في الشاذ . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم } أي : والله ليختبرنكم { الله بشيء } قليل { من الصيد } يسلطه عليكم وَيُذَلِّلُهُ لكم حتى { تناله أيديكم } بالأخذ { ورماحكم } بالطعن { ليعلم الله } علم ظهور وشهادة تقوم به الحجة ، { من يخافه بالغيب } فيكف عن أخذه حذرًا من عقاب ربه ، نزل عام الحديبية ، ابتلاهم الله بالصيد ، كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم ، بحيث يتمكنون من صيده ، أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم ، وهم مُحرمون ، وكان الصيد هو معاش العرب ومستعملاً عندهم ، فاختبروا بتركه مع التمكن منه ، كما اخُتبر بنو إسرائيل بالحوت في السبت . وإنما قلَّلَهُ بقوله : { بشيء من الصيد } إشعارًا بأنه ليس من الفتن العظام كبذل الأنفس والأموال ، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها ، فمن لم يصبر عنده فكيف يصبر بما هو أشد منه ؟ { فمن اعتدى بعد ذلك } الابتلاء بأن قتل بعد التحريم ، { فله عذاب أليم } في الآخرة ، لأن من لا يملك نفسه من مثل هذه فكيف يملكها فيما تكون النفس فيه أميل وعليه أحرص ؟ ! . ثم صرح بالحرمة ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } أي : محرمون جمع حَرَم ، والمراد من دخل في الإحرام أو في الحرم ، وذكر القتل ليفيد العموم ، فيصدق بالذبح وغيره ، وما صاده المحرم أو صيد له ميتةٌ لا يؤكل ، والمراد بالصيد المنهي عن قتله : ما صيد وما لم يُصَد مما شأنه أن يصاد ، وورد هنا النهي عن قتله قبل أن يصاد ، وبعده ، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حُرمًا } ، وخصص الحديث : الغراب والحدأة ، والفأرة والعقرب والكلب العقور ، فلا بأس بقتلهم ، في الحل والحرم ، وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها ، وقاس الشافعي على هذه الخمسة كل ما لا يؤكل لحمه . ثم ذكر جزاء قتله فقال : { ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النَّعَم } أي : فعليه جزاء مثل ما يماثله من النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، ففي النعامة بدنةَ ، وفي الفيل ذات سنامين ، وفي حمار الوحش وبقره بَقَرة ، وفي الغزالة شاة ، فالمثلية عند مالك والشافعي في الخلِقة والمقدار ، فإن لم يكن له مثلٌ أطعم أو صام ، يُقوّم بالطعام فيتصدق به ، أو يصوم لكل مدِّ يومًا ، ومَذهب أبي حنيفة أن المثلية : القيمة ، يُقوم الصيد المقتول ، ويُخير القاتل بين أن يتصدق بالقيمة أو يشتري بها من النعم ما يهديه . وذكر العمد ليس بتقييد عند جمهور الفقهاء ، خلافًا للظاهرية بل المتعمد ، والناسي في وجوب الجزاء سواء ، وإنما ذكره ليرتب عليه قوله : { ومن عاد فينتقم الله منه } ، ولأن الآية نزلت فيمن تعمد ، إذ رُوِي أنهم عرض لهم حمار وحشي ، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله ، فنزلت الآية . ولا بد من حكم الحكَمين على القاتل لقوله : { يَحكم به ذوا عدل منكم } ، فكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد ، فكذلك تحتاج المماثلة في الخلقة والهيأة إليهما ، فإن أخرج الجزاء قبل الحكم عليه فعليه إعادته ، إلا حمام مكة فإنه لا يحتاج إلى حكمين ، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم ، لعموم الآية . وقال الشافعي : يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة ، حال كون المحكوم به { هديًا } بشرط أن يكون مما يصح به الهدي ، وهو الجذع من الضأن ، والثني مما سواه ، وقال الشافعي : يخرج المثل في اللحم ، ولا يشترط السن ، { بالغ الكعبة } لم يرد الكعبة بعينها ، وإنما أراد الحرم ، وظاهره يقتضي أن يصنع به ما يصنع بالهدي من سوق من الحل إلى الحرم ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : إن اشتراه في الحرم أجزأه . { أو كفارة طعام مساكين } مد لكل مسكين ، { أو عدل ذلك صيامًا } ، يوم لكل مد ، عدد الحق تعالى ما يجب في قتل الصيد ، فذكر أولاً الجزاء من النعم ، ثم الطعام ، ثم الصيام ، ومذهب مالك والجمهور : أنها على التخيير ، وهو الذي يقتضيه العطب بأو ، ومذهب ابن عباس أنها مرتبة . وقد نظم ابن غازي الكفارات التي فيها التخيير أو الترتيب فقال : @ خَيَّر بِصَومٍ ثَمَّ صَيدٍ وَأذَى وقُل لِكُلَّ خَصلَةٍ : يا حَبَّذا وَرَتِّب الظِّهارَ والتَّمَتُّعا وَالقَتلَ ثَمّ في اليَمِينِ اجتَمَعَا @@ وكيفية التخيير هنا : أن يخير الحكمان القاتلَ فإن أراد الجزاء عينوا له ما يهدي ، وإن أراد الإطعام قوموا الصيد بالطعام في ذلك المحل ، فيطعم مُدًا لكل مسكين ، وإن أراد الصيام صام يومًا لكل مُدّ ، وكمل لكسره ، فإذا قوم بعشرة مثلاً ونصف مُدّ ، صام أحد عشر يومًا . ثم ذكر حكمة الجزاء ، فقال : { ليذوق وبال أمره } أي : فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصيام ليذوق عقوبة سوء فعله ، وسوء هتكه لحرمة الإحرام ، { عفا الله عما سلف } في الجاهلية أو قبل التحريم ، { ومن عاد فينتقم الله منه } في الآخرة ، وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد ، كما حكى عن ابن عباس وشريح . { والله عزيز ذو انتقام } ممن أصر على عصيانه . ثم استثنى صيد البحر فقال : { أُحل لكم صيد البحر } وهو ما لا يعيش إلا في الماء ، وهو حلال كله لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : " هُو الطَّهُورُ ماَؤهُ ، الحِلُّ مَيتَتُه " وقال أبو حنيفة : لا يحل منه إلا السمك ، { وطعامه } أي : ما قذفه ، أو طفا على وجهه لأنه ليس بصيد إنما هو طعام ، وقال ابن عباس : طعامه : ما مُلِّح وبقي ، { متاعًا لكم وللسيارة } ، الخطاب بلكم للحاضرين في البحر ، والسيارة : المسافرون في البر ، أي : هو متاع تأتِدمون به في البر والبحر ، { وحُرم عليكم صيد البر } يحتمل أن يريد به المصدر ، أي الاصطياد ، أو الشيء المصيد ، أو كلاهما ، وتقدم أن ما صاده محرم أو صيد له ، ميتة ، وحد الحرمة : { ما دمتم حُرمًا } فإذا حللتم فاصطادوا ، { واتقوا الله } في ترك ما حرم عليكم ، { والذي إليه تحشرون } فيجازيكم على ما فعلتم . الإشارة : إذا عقد المريد مع الله عقدة السير والمجاهدة ، قد يختبره الله تعالى في سيره بتيسير الشهوات ، وتسليط العلائق والعوائق ليعلم الكاذب من الصادق ، فإن كف عنها وأعرض ، هيأ لدخول الحضرة ، وإن انهمك فيها ، واقتُنص فيه شبكتها ، بقي مرهونًا في يدها ، أسيرًا في قبضة قهرها ، فإذا نهض حتى دخل حرم الحضرة قاصدًا لعرفة المعارف ، حَرُم عليه صيد البر ، وهو كل ما يخرج من بحر الحقيقة إلى شهود بَر السِّوى ، فرقًا بلا جمع ، كائنًا ما كان ، رسومًا أو علومًا أو أحوالاً أو أقوالاً ، وحلّ له صيد البحر وطعامه ، من أسرارِ أو أنوارِ أو حقائق ، متاعًا لروحه وسره ، وللسيارة من أبناء جنسه ، يطعمهم من تلك الأسرار ، بالهمة أو الحال أو التذكار ، واتقوا الله في الاشتغال بما سواه ، الذي إليه تحشرون ، فيدخلكم جنة المعارف قبل جنة الزخارف . والله تعالى أعلم . ولما عَظَّم شأن الحرم عَظَّم شأن الكعبة ، فقال : { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } .