Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 16-22)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد خلقنا الإِنسانَ ونعلمُ ما تُوسْوسُ به نفسُه } أي : ما تُحدِّثه نفسُه ويهجس في ضميره من خير وشر . والوسوسة : الصوت الخفي ، ووسوسة النفس : ما يخطر بالبال . والضمير في " به " لـ " ما " إن جعلتها موصولةً ، والباء كما في : صَوَّت بكذا ، أو : للإنسان ، إن جعلتها مصدرية . والباء حينئذ للتعددية . { ونحن أقربُ إِليه } أي : أعلم بحاله مما كان أقرب إليه { مِن حبل الوريد } والحبل : العرق ، وإضافته بيانية والوريدان : عرقان مكتفان بصفحتي العنق في مقدمه متصلان بالوتين ، والوتين : عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه . قاله في القاموس ، يَرِدان من الرأس إليه ، وقيل : سُمي وريد لأن الماء يرده . { إِذ يتلقَّى المتلقيان } أي : الملكان الحافظان لأعمال العبد . والظرف : منصوب بما في " أقرب " من معنى الفعل ، أي : يتقرب إذ يتلقى . والمعنى : أنه تعالى لطيف يتوصل علمُه إلى ما لا شيء أخفى منه ، وهو أقرب للإنسان من كل قريب ، حين يتلقى الحافظان ما يُتلفظ به ، وفيه إيذان بأنه تعالى غنيٌّ عن استحفاظها لإحاطة علمه بما يخفى عليهم ، وإنما ذلك لما في كتبهما وحفظهما لأعمال العباد ، وعرض صحائفها يوم يقوم الأشهاد ، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته بتفاصيل أحواله من زيادة لطف به في الكف عن السيئات ، والرغبة في الحسنات . ثم ذكر مكانهما بقوله : { عن اليمين وعن الشمال قَعِيدٌ } أي : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، وحذف الأول لدلالة الثاني عليه . وقعيد : بمعنى مقاعد ، كالجليس بمعنى المجالس ، أو : بمعنى قاعد ، كالسميع والعليم . وعنه صلى الله عليه وسلم : " إن مقعد ملَكيْك على ثَنِيَّتِيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادُهما ، وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منهما ! " وقال الضحاك : مجلسهما تحت الثغر من الحَنَك ، ورواه عن الحسن ، وكان يُعجبه أن ينظف عنفقته . { ما يلفظ مِن قولٍ } أي : ما يتكلم به وما يَرْمي به من فِيه { إِلا لديه رقيبٌ } حافظ { عتيدٌ } حاضر لازم ، أو معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير والشر ، وقال أبو أمامة عنه صلى الله عليه وسلم : " كاتب الحسنات عن يمين الرجل وكاتب السيئات عن يساره ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنةً كتبها صاحبُ اليمين عشراً ، وإذا عمل سيئة قال صاحبُ اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات ، لعله يُسبِّح أو يستغفِر " . قال الحسن : إنّ الملكين يجتنبان العبد عند غائطه ، وعند جماعه ، ويكتبان عليه كل شيء ، حتى أنينه في مرضه . وقال عكرمة : لا يكتبان عليه إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر . وعنه عليه السلام : " ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا ، فيرى الله تعالى في أول الصحيفة خيراً وفي آخرها خيراً ، إلا قال للملائكة : اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة " والحفظة أربعة : اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، فإذا مات العبد قاموا على قبره يُكبران ويُهللان ويُكتب ذلك للعبد المؤمن . ولمَّا ذكر إنكارهم للبعث ، واحتج عليهم بعموم قدرته وعِلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه بعد الموت ، ونبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي فقال : { وجاءت سكرةُ الموت بالحق … } الخ . وقال ابن عطية : هو عندي عطف على " إذ يتلقى " والتقدير : وإذ تجيءُ سكرة الموت ، يعني فهو كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } [ الواقعة : 85 ] الآية . هـ . وحاصل الآية حينئذ : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ظاهره وباطنه ، ونحن أقربُ إليه في جميع أحواله ، في حياته ، ووقت مجيء سكرة الموت ، أي : شدته الذاهبة بالعقل ، ملتبسة { بالحق } أي : بحقيقة الأمر ، وجلاء الحال ، من سعادة الميت أو شقاوته ، { ذلك ما كنتَ منه تحيدُ } أي : تنفر وتهرب وتميل عنه طبعاً . والإشارة إلى الموت . والخطاب للإنسان في قوله : { ولقد خلقنا الإنسان } على طريقة الالتفات . { ونُفخ في الصور } نفخة العبث { ذلك يومُ الوعيد } أي : وقت ذلك النفخ هو يوم الوعيد ، أي : يوم إنجاز الوعد ووقوع الوعيد . وتخصيص الوعيد بالذكر لتهويله ، ولذلك بدأ ببيان حال الكفرة بقوله : { وجاءت كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس البرّة والفاجرة { معها سائق وشهيد } أي : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله . قيل : السائق : كاتب الحسنات ، والشاهد : كاتب السيئات ، ويقال لها : { لقد كنتَ في غفلة من هذا } النازل بك اليوم ، { فكشفنا عنك غِطاءك } فأزلنا غفلتك ، وهو الوقوف مع المحسوسات والإلْف ، والانهماك في الحظوظ ، وقصر النظر عليها ، فشاهدت اليومَ ما كنتَ غافلاً عنه { فبصرُكَ اليومَ حديدٌ } نافذة لزوال المانع . جعلت الغفلة كأنها غطاء غطّى به جسده ، أو غشاوة غطّى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً ، فإذا كان يوم القيامة سقط ، وزالت عنه الغفلة ، وكشف غطاؤه ، فبصر ما يبصره من الحق ، ورجح بصره الكليل حديداً ، لتيقُّظه حين لم ينفع التيفظ . وبالله التوفيق . الإشارة : هذه الآية وأشباهها أصل في مقام المراقبة القلبية ، فينبغي للعبد أن يستحيي من الله أن يُحدِّث في نفسه بشيء يتسحيي أن يظهره ، يعني الاسترسال معه ، وإلا فالخواطر العارضة لا قدرة على دفعها . قال القشيري : { ما توسوس به نفسُه } من شهوة تطلب استيفاءها ، أو تصنُّع مع الخَلْق ، أو سوء خُلُق ، أو اعتقاد فاسد ، أو غير ذلك من أوصاف النفس ، توسوس بذلك لتشَوِّش عليه قلبه ووقته ، وكيف لا نعلم ذلك وكُلُّ ذلك مما خلقناه وقدرناه . هـ . وقوله تعالى : { ونحن أقربُ إليه من حبل الوريد } أي : أنا أقرب إلى كل أحد من عروق قلبه ، وهذا لأن قيام الفعل بالصفات ، والصفات لا تُفارق الذات ، فالقرب بالعلم والقدرة ، وتستلزم القرب الذات ، وقرب الحق من خلقه هو قرب المعاني من الأواني ، إذ هي كليتها وقائمة بها ، فافهم . قال القشيري : وفي هذه الآية هَيْبَةٌ وفَزَعٌ لقوم ، ورَوْحٌ وأُنْسٌ وسُكونُ قلبٍ لقوم . هـ . وقوله تعالى : { إذ يَتَلقى المتقليان … } الخ ، كأنّه تعالى يقول : مَن لم يعرف قدر قُربي منه ، بأن يَعده وهمُه وجهلُه ، فإني أوكل عليه رقيبين يحفظان أعماله لعله ينزجر . وقوله تعالى : { ما يلفظ من قول … } الخ ، وأما عمل القلوب فاختص الله تعالى بعلمها ، وهي محض الإخلاص . قال بعضهم : الإخلاص : إخفاء العمل بحيث لم يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيُفسده ، فالعارفون جُلّ أعمالهم قلبية ، نظرة أو فكرة . رُوي أن بعض العارفين قال له حفظتُه : يا سيدي أظهر لنا شيئاً من أعمالك نفرح به عند الله ، فقال لهم : يكفيكم الصلوات الخمس . هـ . قال القشيري : وفيه أيضاً إشارة إلى كمال عنايته في حق عباده ، إذ جعل على كل واحد رقيبين من الملائكة ليحفظوه بالليل والنهار ، إذا كان قاعداً فواحد عن يمينه وواحد عن شماله ، وإذا قام فواحد عند رأسه ، وواحدٌ عند قَدَمِه ، وإذا كان ماشياً فواحدٌ بين يديه وواحد خَلْفه . انظر بقيته . هـ . وهذان غير الملكين الموكلين بحفظ الأعمال . والله أعلم . وقال في قوله : { وجاءت سكرةُ الموت بالحق } : إذا أشرفت النفسُ على الخروج من الدنيا ، فأحوالهم تختلف ، فمنهم مَن يزداد في ذلك الوقت خوفُه ، ولا يتبيّنُ حاله إلا عند ذهاب الروح ، ومنهم مَن يُكَاشف قبلَ خروجه فتَسُكُن روحُه ، يُحفظ عليه عَقْلُه ، ويتم له حضورُه وتمييزُه ، فسلَّم الروحَ على مَهَلٍ من غير استكراهٍ وعبوس منهم . وفي معناه يقول بعضهم : @ أنا إنْ مِتُّ فالهوى حشو قلبي وبداءِ الهوى تموت الكرامُ @@ { ونُفخ في الصور ذلك يوم الوعيد } لكل نفس ما وعدها الله ، بحسب سيرها من أول العمر إلى يوم البعث ، { وجاءت كل نفس معها سائق } وهو الذي ساقها في مبدأ الوجود ، إما سوقاً باللطف ، أو سوقاً بالعنف عند قوله : " هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي " ، وشهيد يشهد عليها بما جرى لها من الأحكام الأزلية { لقد كنتَ في غفلة من هذا } قال القشيري : يُشير إلى أن الإنسان ، وإن خُلق من عالم الغيب والشهادة ، فالغالب عليه في البداية الشهادة ، وهو العالم الحسي ، فيرى بالحواس الظاهرة العالَم المحسوس مع اختلاف أجناسه ، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب ، فمن الناس يكشف له غطاؤه عن بصره بصيرته ، فيجعل حديداً ، يبصر رشده ، ويحذر شره ، وهم المؤمنون من أهل السعادة ، ومنهم مَن يكشف له غطاء عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم { لا ينفع نفساً إيمانها … } الآية ، وهم الكفار من أهل الشقاوة . هـ . ثم ذكر أحوالهم بعد البعث ، فقال : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } .