Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 50, Ayat: 23-29)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وقال قرينُهُ } أي : الشيطان المقيض له ، أو : الملك الكاتب الشاهد عليه : { هذا ما لديَّ عَتِيدٌ } أي : هذا ما عندي وفي ملكي عتيد لجهنم ، قد هيأته بإغوائي وإضلالي ، أو : هذا ديوان عمله عندي عتيد مهيأ للعرض ، فـ " ما " موصولة ، إما بدل من " هذا " أو صفة ، و " عتيد " : خبر ، أو : خبر ، و " عتيد : خبر آخر ، أو : موصوفة خبر " هذا " ، و " لديّ " : صفته ، وكذا " عتيد " أي : هذا شيء ثابت لديّ عتيد . ثم يقول الله تعالى للسائق والشهيد : { ألقيا في جهنم } أو : لملكين من خزنة جهنم ، أو : يكون الخطاب لواحد ، وكان الأصل : ألقِ ألقِ ، فناب " ألقيا " عن التكرار لأن الفاعل كالجزء من الفعل ، فكان تثنية الفاعل نائباً عن تكرار الفعل ، أو : أصله : ألْقِيَن ، والألف بدل من نون التوكيد ، إجراء للموصول مجرى الوقف ، دليله : قراءة الحسن : ألْقينْ والأحسن : أن يُراد جنس قرينه ، فيصدق بالسائق والشهيد ، فيقال لهما : { ألقيا في جهنم كلَّ كَفَّار } بالنعم والمُنعِم { عنيدٍ } : مجانب للحق ، معادٍ لأهله ، { منَّاعٍ للخير } كثر المنع للمال عن حقوقه ، أو : منَّاع لجنس الخير أن يصل إلى أهله ، أو : يراد بالخير الإسلام ، لأن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، لَمَّا منع بني أخيه من الإسلام . { معتدٍ } ظالم متخطِّ للحق { مريب } : شاكٍّ في الله تعالى وفي دينه . { الذي جعل مع الله إِلهاً آخر } : بدل من " كل كَفَّار " ولا يجوز أن يكون صفة لأن النكرة لا توصف بالموصول ، خلافاً لابن عطية ، أو : مبتدأ مضمن معنى الشرط ، خبره : { فألْقِيَاهُ في العذاب الشديد } وعلى الأول يكون " فألقياه " تكريراً للتوكيد ، أو مفعولاً بمضمر ، يُفسره " فألقياه " أي : ألقِِ الذي جعل مع الله إلهاً آخر ألقياه . { قال قرينُه } أي : شيطانه الذي قُرن به ، وهذا يؤيد أن المراد بالمتقدم جنس القرين ، وإنما أُخليت هذه الجملة من الواو دون الأولى لأن الأولى واجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أي : مجيء كل نفس مع ملكين وقول قرينه ما قال له ، وأما هذه فهي مستأنفة ، كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول ، كما في مقاولة موسى وفرعون في وقوله : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ } [ الشعراء : 23 - 31 ] إلى آخر الآيات ، فكأن الكافر قال : هو أطغاني ، فأجابه قرينُه بتكذيبه فقال : { ربنا ما أطغيتُه ولكن كان في ضلال بعيد } عن الحق ، أي : ما أوقعته في الطغيان بالقهر ، ولكن طغى واختار الضلالة على الهدى ، وهذا كقوله : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ } [ إبراهيم : 22 ] ، فالوسوسة والتزيين حاصل منه ، والاختيار من الكافر ، والفعل لله ، لا يُسأل عما يفعل . { قال } تعالى : { لا تختصمون لَدَيَّ } أي : في موقف الحساب والجزاء ، إذ لا فائدة في ذلك ، والجملة استئناف جواب عن سؤال ، كأن قائلاً قال : فماذا قال الله تعالى لهم ؟ قال : لا تختصموا عندي { وقد قَدَّمتُ إِليكم بالوعيد } في دار الكسب على ألسنة رسلي ، فلا تطمعوا في الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلُّل بالمعاذير الباطلة . والجملة فيها تعليل للنهي ، على معنى : لا تختصموا وقد صحّ عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قالت : " لأملأن جهنم … " الخ ، فاتبعتموه معرضين عن الحق ، فلا وجه للاختصام في هذا الوقت . والباء إما مزيدة كما في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو معدية على أن " قَدَّم " مضارع تقدم . { ما يُبدّلُ القولُ لَدَيَّ } أي : لا تطمعوا أن يُبدل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار ، { وما أنا بظَلاَّمٍ للعبيد } فلا أُعذب عبداً بغير ذنب مِن قِبلَه ، بل بما صدر منه من الجنايات ، حسبنا أشير إليه آنفاً . والتعبير عن بالظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة ، فضلاً عن كونه ظلماً مفرطاً لتأكيد هذا المعنى ، بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم ، وقيل : هو لرعاية جميعة العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده وظلاّم لعبيده ، وقيل : ظلاّم بمعنى : ذي ظلم ، كلبّان لذي اللبن . والله تعالى أعلم . الإشارة : قرين الإنسان نَفْسُه الأمّارة ورُوحه المطمئنة ، فإذا غلبت النفسُ على الروح وصرّفت صاحبها في الهوى ، تقول يوم القيامة : هذا ما لديّ عتيد ، مهيَّا للعتاب ، فيقال لهما : ألقيا في نار القطيعة كلَّ كفّار للنعم ، جحود لوجود الطبيب ، منّاع للخير ، فلم يصرفه فيما يخلصه من نفسه ، معتدٍ على الله بتكبُّره ، وعدم حط رأسه للداعي إلى الله ، مُريب ، قد لعبت به الشكوك والأوهام والخواطر ، أو : شاك في وجود الطبيب ، الذي جعل مع الله إلهاً آخر ، يُحبه ويخضع له ، من الهوى والدنيا ، وكل ما أشركه مع الله في المحبة ، فألقياه في العذاب الشديد : الحجب عن الله ، وعدم اللحوق بأولياء الله ، أو العذاب الحسي . قال قرينه - روحه التي كانت سماوية ، فصيّرها أرضية ، بمتابعة هواه : ربنا ما أطغيته ، فإنه ليس الإغواء والإطغاء من شأني ، ولكن كان في ضلال بعيد ، حيث أطاع نفسه وهواه ، ورماني في مزابل الشهوات والغفلة ، قال تعالى : { لا تختصموا لَدَيَّ } اليوم ، قد قدمت إليكم بالوعيد ، حيث قلت : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارة بِالسُّوء } [ يوسف : 53 ] { قَدْ أَفَلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 ، 10 ] وقلت في شأن مَن جاهد نفسه ، وردها لأصلها : { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } [ الفجر : 27 ] الآية ، { ما يُبدلّ القولُ لَدَيَّ } فإني وعدت أهل المجاهدة بالوصول إلى حضرتي ، والتنعُّم برؤيتي بقولي : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا … } [ العنكبوت : 69 ] الآية ، وأهلَ الغفلة بالحجاب ، بقولي : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 14 ، 15 ] ، وما ظلمت أحداً قط ، لأن الظلم ليس من شأني ، ولا يليق بمُلكي . ثم ذكر اليوم الذي يظهر الوعد الوعيد ، فقال : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ } .