Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 50, Ayat: 30-35)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : واذكر { يوم يقول لجهنم هل امتلأتِ } ؟ وقرأ غير نافع وشعبة : بنون العظمة . فالعامل في الظرف : اذكر أو : " بظلاّم " أو محذوف مؤخر ، أي : يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال ، { وتقول هل من مزيد } ؟ أي : من زيادة ، مصدر كالمجيد ، أو : مفعول ، كالمنيع ، أي : هل بقي ما يزاد ، يعني : أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها يُطرح فيها الناس والجِنة فوجاً بعد فوج حتى تملأ { وتقول } بعد امتلائها : { هل من مزيد } أي : هل بقي فيَّ موضع لم يمتلئ ؟ ! يعني : قد امتلأت . أو : أنها من السعة يدخل مَن يدخلها ولم تمتلئ فتطلب المزيد ، وهذا أولى . قال ابن جزي : واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة ، أو مجازاً بلسان الحال ، والأظهر : أنه حقيقة ، وذلك على الله يسير ، ومعنى قولها : هل من مزيد : أنها تطلب الزيادة ، وكانت لم تمتلئ ، وقيل : معناه : لا مزيد ، أي : ليس عندي موضع للزيادة ، فهي على هذا قد امتلأت ، والأول أرجح ، لما ورد في الحديث : " لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول : هل من مزيد ؟ حتى يضعَ الجبارُ فيها قدمه ، فتنزوي ، وتقول : قَطْ قَطْ " وفي هذا الحديث كلام ليس هذا موضعه . هـ . قال في الحاشية : ووضع القدم مَثَلٌ للردع والقمع ، أي : يأتيها أمر يكفها عن طلب المزيد . وقال ابن حجر : واختلف في المراد بالقدم ، فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة . ثم قال : وقال كثير من أهل العلم بتأويل ذلك ، فقيل : المراد إذلال جهنم ، فإنها إذا بلغت في الطغيان ، وطلبت المزيد ، أذلّها الله ، كوضعها تحت القدم ، وليس المراد حقيقة القدم ، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء ظرفاً للأمثال ، ولا تريد أعيانها كقولهم : رغم أنفه ، وسقط في يده . هـ . قلت : مَن دخل بحار الأحدية لم يصعب عليه حلّ أمثال هذه الشُبّه ، فإن تجليات الحق لا تنحصر ، فيتجلّى سبحانه كيف شاء ، وبما شاء ، ولا حضر ولا تحييز ، ولا يفهم هذه إلا أهل الفناء والبقاء بصحبة الرجال . ثم قال تعالى : { وأُزلفتْ الجنةُ للمتقين } وهو شروع في بيان أحوال المؤمنين بعد النفخ ومجيء النفوس إلى موقف الحساب . وتقديم الكفرة في أمثال هذا إما لتقديم الترهيب على الترغيب ، أو لكثرة أهل الكفر ، فإن المؤمنين بينهم كالشعرة البيضاء في جلدٍ أسود ، أي : قربت الجنة للمتقين الكفر والمعاصي ، بحيث يشاهدونها من الموقف ، ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن ، فيبتهجون بأنهم محشورون إليها ، فائزون بها ، ويأتي في الإشارة بقية بيان ، إن شاء الله . وقوله : { غيرَ بعيدٍ } تأكيد للإزلاف ، أي : مكاناً غير بعيد ، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر ، الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث ، أو لتأوّل الجنة بالبستان . { هذا ما تُوعدون } أي : هذا الثواب ، أو الإزلاف ، ما كنتم توعدون به في الدنيا ، وهو حاصل { لكل أواب } أي : رجّاع إلى الله تعالى ، { حفيظٍ } لأوامر الله ، أو لما استودعه الله من حقوقه ، { مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغيب } : بدل من " أواب " أو مبتدأ ، خبره : أدخلوها ، على تقدير : يقال لهم : ادخلوها لأن " من " في معنى الجمع ، والخشية : انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة أو التقصير أو الهيبة . وقوله تعالى : { بالغيب } حال من فاعل " خشي " ، أو من مفعوله ، أو صفة لمصدره ، أي : خشية ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب عنه ، وخشي الرحمن وهو غائب عن الأعين في رداء الكبرياء ، لا تراه الأعين الحسية الحادثة ، والتعرُّض لعنوان الرحمن للثناء البليغ على الخاشي ، حيث خشيَه مع علمه بسعة رحمته ، فلم يصدهم علمهم بسعة رحمته عن خوفه تعالى ، أو : للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته . { وجاء بقلب منيب } راجع إلى الله ، أو سريرةٍ مَرضيةٍ ، وعقيدةٍ صحيحة . يُقال لهم : { ادخلوها بسلامٍ } أي : سالمين من زوال النعم وحلول النقم ، أو : ملتبسين بسلام من الله تعالى وملائكته عليكم ، { ذلك يومُ الخلود } الإشارة إلى الزمان الممتد الواقع في بعض منه ما ذكر من الأحوال ، أي : نهاية ذلك اليوم هو يوم الخلود ، الذي لا انتهاء له ، { لهم ما يشاؤون فيها } من فنون المطالب ومنتهى الرغائب { ولدينا مزيدٌ } هو النظر إلى وجهه الكريم ، على قدر حضورهم اليوم ، أو : هو ما لا يخطر ببالهم ، ولا يندرج تحت مشيئتهم من الكرامات ، التي لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وقيل : إن السحاب تمر باهل الجنة فتمطر عليهم الحور ، فتقول : نحن المزيد الذي قال تعالى : { ولدينا مزيد } قلت : مزيد كل واحد على قدر همته وشهوته . والله تعالى أعلم . الإشارة : يوم يقول لجهنم : هل امتلأت ؟ وتقول : هل من مزيد ، كذلك النفس ، نار شهوّاتها مشتعلة كلما أعطيتها شيئاً من حظوظها طلب المزيد ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على مَن تاب ، وفي الحديث : " اثنان لا يشبعان : طالب الدنيا وطالب علم ، طالب الدنيا يزداد من الله بُعداً ، وطالب العلم يزداد من الله رضاً وقُرباً " أو كما قال صلى الله عليه وسلم . واعلم أن الروح إذا عشقت شيئاً فإن كان من الدنيا يُسمى حرصاً ، وإن كان في جانب الحق سُمي محبة وشوقاً ، وفي الحقيقة ما هي إلا محبة واحدة ، إلا أنها لما تاهت انقلبت محبتها للفروقات الحسية ، وغابت عن المعاني الأزلية ، وكلما زاد في الحرص نقص في المحبة ، وما نقص من الحرص زاد في المحبة . ويقال : كلما زادت محبة الحس نقصت المعنى ، وبالعكس ، وإذا اشتعلت نار المحبة فلا تسكن بما يلقى فيها من الأمور الحسية ، كانت حظوظاً أو حقوقاً ، بل كلما ألقي فيها تقول : هل من مزيد ، حتى يضع الجبار قدمه ، وهو قذف نور معرفته في القلب ، فحينئذ يحصل الفناء وتقول : قط قط . ثم أخبر عن حال المؤمنين بقوله : { وأُزلفت الجنة للمتقين } أي : قربت جنة المعارف إلى قلوب خواص المتقين ، الذي اتقوا ما سوى الله ، فقربت منهم ، ودَخَلوها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قربت إليهم الجنة الحسية في المحشر ، فيركبون في قصورها وغرفها ، وتطير بهم إلى الجنة ، فلا يسحون بالصراط ولا بالنار ، وفيهم قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] والناس على ثلاثة أصناف : قوم يُحشرون إلى الجنة مشاة ، وهم الذين قال الله فيهم : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً } [ الزمر : 73 ] وهم عوام المؤمنين ، وقوم يُحشرون إلى الجنة ركباناً على طاعتهم ، المصورة لهم على صورة المراكب ، وهؤلاء الخواص من العباد والزهّاد والعلماء والصالحين ، وأما خواص الخواص ، وهم العارفون ومَن تعلق بهم ، فهم الذين قال الله فيهم : { وأزلفت الجنة للمتقين } تُقرب منهم ، فيركبون فيها ، ويسرحون إلى الجنة . انظر القشيري . وقوله تعالى : { هذا ما توعدون } الإشارة إلى مقعد صدق ، ولو كان إلى الجنة لقال " هذه " . قال القشيري . ثم وصف أهل هذا المقام بقوله : { لكل أواب حفيظ } أي : راجع إلى الله في جميع أموره ، لا يعرف غيره ، ولا يلتجئ إلا إليه ، حفيظ لأنفاسه مع الله ، لا يصرفها إلا في طلب الله ، مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغيب ، أي : بنور الغيب يشاهد شواهد الحق ، فيخشى بُعده أو حجبه . قال القشيري : والخشية تكون مقرونة بالأُنس ، ولذلك لم يقل : مَن خشي الجبار . ثم قال : والخشية من الرحمن خشية الفراق ، ويقال : هو مقتضى علمه بأنه يفعل ما يشاء ، لا يُسأل عما يفعل ، ويقال : الخشية ألطف من الخوف ، فكأنها قريبة من الهيبة . هـ { وجاء بقلب منيب } مقبل على الله بكليته ، معرض عما سواه ، { ادخلوها } جنة المعارف { بسلام } من العيوب ، آمنين من السلب والرجوع ، وهذا قوله { ذلك يوم الخلود } فيها ، لهم ما يشاؤون من فنون المكاشفات ، ولذيذ المشاهدات ، ولدينا مزيد ، زيادة ترقي أبداً سرمداً ، جعلنا الله من هذا القبيل في الرعيل الأول ، آمين . ثم رجع إلى تهديد الكفرة ، فقال : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } .