Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 50, Ayat: 36-38)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وكم أهلكنا قبلهم } قبل قومك { من قَرْنٍ } من القرون الذين كذَّبوا رسلهم { هم أشدُّ منهم } من قومك { بطشاً } قوة وسطوة ، { فنَقَّبوا في البلاد } أي : خرّبوا وطافوا وتصرّفوا في أقطارها ، وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذرا من الموت { هل } وجدوا { من مَحيص } أي : مهرب منها ؟ بل لَحِقَتهم ودقت أعناقهم ، أو : هل وجدوا من مهرب من أمر الله وقضائه ؟ وأصل التنقيب والنقب : البحث والطلب ، قال امرؤ القيس : @ لقد نَقَّبْتُ في الآفاقِ حَتَّى رَضِيتُ من الغَنِيمَةِ بالإِيابِ @@ ودخلت الفاء للتسبُّب عن قوله : { هم أشد منهم بطشاً } أي : شدة بطشهم ، أي : قدرتهم على التنقيب في البلاد ، ويجوز أن يعود الضمير إلى أهل مكة ، أي : ساروا في أسفارهم ومسايرهم في بلد القرون ، فهل روأوا لهم محيصاً حتى يُؤملوا مثله أنفسهم ؟ ويؤيدهم قراءة مَن قرأ فنَقِّبوا على صيغة الأمر . { إِنَّ في ذلك } أي : فيما ذكر من قصصهم ، أو : فيما ذكر في السورة { لَذِكرى } لتذكرة وعظة { لمَن كان له قلبٌ } سليم واعٍ يُدرك كنه ما يشاهده من الأمور ، ويتفكّر فيها ، ليعلم أن مدار دمارهم هو الكفر ، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير ، { أو أَلقى السمعَ } أي : أصغى بقلبه إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم ، فإن مَن فعله يقف على كنه الأمر ، فينزجر عما يؤدي إليه من الكفر والمعاصي ، يقال : ألق إليَّ سمعَك ، أي : استمع ، فـ " أو " لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع ، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب عما ذكر من الصفات ، للإذان بأن مَن عَرَى قلبه عنهما كمَن لا قلب له أصلاً . وقوله تعالى : { وهو شهيد } حال ، أي : والحال أنه حاضر القلب لا يغفل أو : شاهد على ما يقرأ من كتاب الله . { ولقد خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما } من أصناف المخلوقات ، وهذا أيضاً احتجاج على القدرة على البعث بما هو أكبر ، كقوله : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] وقوله تعالى { في ستة أيام } إنما خلقها في تلك المدة تعليماً لخلقه التؤدة ، وإلا فهو قادر على أن يخلقها في لمحة ، { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، ويحتمل أن هذا في عالم الأمر ، وأما عالم الخلق فاقتضت الحكمة خلقه بالتدريج ، وله الخلق والأمر ، ثم قال تعالى : { وما مسَّنا من لُغوبٍ } من إعياء ولا تعب في الجملة ، وهذا رد على جهلة اليهود ، أنه تعالى بدأ العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، واستلقى على العرش ، تعالى عما يقولون عُلوّاً كبيراً . الإشارة : كثيراً ما أهلك اللّهُ من النفوس المتمردة في القرون الماضية ، زجراً لمَن يأتي بعدهم ، ففي ذلك ذِكرى لمَن كان له قلب سليم من تعلُّقات الكونين . قال القشيري : فالقلوب أربعة : قلب فاسد : وهو الكافر ، وقلب مقفول : وهو قلب المنافق ، وقلب مطمئن : وهو قلب المؤمن ، وقلب سليم : وهو قلب المحبين والمحبوبين ، الذي هو مرآة صفات جمال الله وجلاله ، كما قال تعالى : " لا يسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن " هـ . وقال الشبلي : لِمن كان له قلب حاضر مع الله ، لا يغفل عنه طرفة عين . وقال يحيى بن معاذ : القلب قلبان : قلب احتشى بأشغال الدنيا ، حتى إذا حضر أمرٌ من أمور الآخرة لم يدرِ ما يصنع ، وقلب احتشى بالله وشهوده ، فإذا حضر أمر من أمور الكونين لم يدرِ ما يصنع ، غائب عن الكونين بشهود المكوِّن . وقال القتاد : لمن كان له قلب لا يتلقّب عن الله في السراء والضراء . هـ . { أو ألقى السمع وهو شهيد } أي : يشهد ما مِن الله إلى الله ، أو : يشهد أسرار الذات . قال القشيري : يعني مَن لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع الله وهو حاضر مع الله ، فيعتبر بما يشير إليه الله في إظهار اللطف أو القهر . هـ . { ولقد خلقنا السماوات } أي : سماوات الأرواح ، وأرض الأشباح ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار ، وسر الأسرار ، في ستة أيام ، أي : ستة أنواع من المخلوقات ، وهي محصورة فيما ذكرناه من الأرواح ، والأشباح ، والنفوس ، والقلوب ، والأسرار ، وسر الأسرار ، فلا مخلوق إلا وهو داخل في جملتها ، لا يخرج عنها ، { وما مسّنا من لُغوب } لأن أمرنا بين الكاف والنون . ثم أمر نبيه بالصبر على ما يسمع في جانبه تعالى ، أو في نفسه ، فقال : { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } .