Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 15-19)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ المتقين في جناتٍ وعيون } عظيمة ، لا يبلغ كُنهها ، ولا يُقادر قدرها ، ولعل المراد بها الأنهار الجارية ، بحيث يرونها ، ويقع عليها أبصارهم ، لا أنهم فيها ، { آخذين ما آتاهم ربهم } أي : نائلين ما أعطاهم راضين به ، بمعنى أنَّ كلَّ ما يأتهم حسَنٌ مرضي ، يتلقى بحسن القبول ، { إِنهم كانوا قبل ذلك } في الدنيا { محسنين } متقنين لأعمالهم الصالحة ، آتين بها على ما ينبغي ، فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم ، ومعنى الإحسان ما فسره به عليه الصلاة والسلام : " أن تعبد الله كأنك تراه " الحديث . ومن جملته ما أشار إليه بقوله : { كانوا قليلاً من الليل ما يَهْجعون } أي : كانوا يهجعون ، أي : ينامون في طائفة قليلة من الليل ، على أن " قليلاً " ظرف أو كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ، على أنه صفة لمصدر ، و " ما " مزيدة في الوجهين ، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة بـ " قليلاً " على الفاعل ، أي : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم . وقال النسفي : يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في " كانوا " : لا بقليلاً لأنه صار موصوفاً بقوله : { من الليل } فبعد من شبه الفعل وعمله ، ولا يجوز أن تكون " ما " نافية على معنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله . هـ . أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله لأن " ما " النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولأن المحسنسن وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول ، وموجودون في كل زمان ومكان ، فلا معنى لقلتهم ، خلافاً لوقف الهبطي ، وأيضاً : فمدحهم بإيحاء الليل كله مخالف لحالته صلى الله عليه وسلم ، وما كان يأمر به . { وبالأسحارِ هم يستغفرون } وصفهم بأنهم يحيون جُل الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار من رؤية أعمالهم . والسَحر : السدس الأخير من الليل ، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يُوصفوا بالاستغفار ، كأنهم المختصون به ، لاستدامتهم له ، وإطنابهم فيه . { وفي أموالهم حقُّ } أي : نصيب وافر ، يُوجبونه على أنفسهم ، تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقاً على الناس ، { للسائلِ والمحروم } أي : لمَن يُصرح بالسؤال لحاجة ، وللمتعفف الذي يتعرّض ولا يسأل حياءً وتعففاً ، يحسبه الناس غنيّاً فيحرم نفسه من الصدقة . وقد تكلم في نوادر الأصول على مَن سأل بالله ، أي : قال : أعطني لوجه الله ، هل يجب إعطاؤه أم لا ؟ وفي الحديث : " مَن سألكم بالله فأعطوه " قال : وهو مُقيد بما إذا سأل بحق : أي : لحاجة ، وأما إذا سأل بباطل - أي : لغير حاجة - فإنما سأل بالشيطان لأن وجه الله حق . ثم ذكركلام عليّ شاهداً ، ثم حديث معاذ : " مَن سألكم بألله فأعطوه ، فإن شئتم فدعوه " ، قال معاذ : وذلك أن تعرف أنه غير مستحق ، وإذا عرفتم أنه مستحق ، وسأل فلم تعطوه فأنتم ظَلَمة . وأُلحِقَ بغير المستحق مَن اشتبه حاله لتعليق الظلم على معرفة الاستحقاق خاصة . وقال النووي في الأذكار : يُكره منع مَن سأل بالله ، وتشفَّع به لحديث : " مَن سأل بالله فأعطوه " قال : ويكره أن يسأل بوجه الله عير الجنة . هـ . وفي حديث المنذري : " ملعونٌ مَن سأل بوجه الله ، وملعونٌ مَن سُئل بوجه الله ، ثم مَنَعَ سَائِلَهُ ما لم يَسْأَلْ هُجْراً " وقال في كتابه " الأخبار " على قوله عليه الصلاة والسلام : " مَن سألكم بالله فأعطوه " إجلالاً لله تعالى ، وتعظيماً ، وإيجاباً لحقه . ثم قال : إذ ليس يجب إعطاء السائل إذا كان في معصية أو فضول ، فمَن سأل بالله فيما ليس عليه ولا عليك فرضه ، فإعطاؤك إياه لإجلال حق الله وتعظيمه ، وليس عليك بفرض ولا حتم . انظر تمامه في الحاشية الفاسية . الإشارة : إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف ، وعيون العلوم والأسرار . قال القشيري : في عاجلهم في جنة الوصول ، وفي آجلهم في جنة الفضل ، فغداً نجاة ودرجات ، واليوم قربات ومناجاة . هـ . { آخذين ما آتاهم ربهم } من فنون المواهب والأسرار ، وغداً من فنون التقريب والإبرار ، راضين بالقسمة ، قليلاً أو كثيرة . إنهم كانوا قبل ذلك : قبل الإعطاء ، محسنين ، يعبدون الله على الإخلاص ، يأخذون من الله ، ويدفعون به ، وله ، ولا يردون ما أعطاهم ، ولو كان أمثال الجبال ، ولا يسألون ما لم يعطهم ، اكتفاء بعلم ربهم . قال القشيري : كانوا قبل وجودهم محسنين ، وإحسانهم : كانوا يُحبون الله بالله ، يحبهم ويحبونه وهم في العدم ، ولمَّا حصلوا في الوجود ، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، كأنَّ نومهم عبادة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " نوم العالم عبادة " فمن َيكون في العبادة لا يكون نائماً ، وهجوع القلب : غفلته ، وقلوبهم في الحضرة ، ناموا أو استيقظوا ، فغفلتهم بالنسبة إلى حضورهم قليلة . وقال سهل رضي الله عنه : أي : كانوا لا يغفلون عن الذكر في حال ، يعني هجروا النوم لوجود الأُنس في الذكر ، والمراد بالنوم : نوم القلب بالغفلة . { وبالأسحار هم يستغفرون } ، قال القشيري : أخبر عن تهجدهم ، وقلة دعاويهم ، وتنزُّلهم بالأسحار ، منزلةَ العاصين ، تصغيراً لقدرهم ، واحتقاراً لفعلهم . ثم قال : والسهر لهم في لياليهم دائم ، إما لفرط لهف ، أو شدة أسف ، وإما لاشتياق ، أو للفراق ، كما قالوا : @ كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها أفنيْتُها قابضاً على كبدي قد غُصَّت العين بالدموع وقد وضعتُ خدي على بنانِ يدي @@ وإما لكمال أُنس ، وطيب روح ، كما قالوا : @ سقى الله عيشاً قصيراً مضى زمانَ الهوى في الصبا والمجون لياليه تحكي انسدادَ لحاظٍ لعيْنيّ عند ارتداد الجفون @@ هـ . { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } أي : هم يُواسون مَنْ قصدهم بالحس والمعنى ، فيبذلون ما خوّلهم الله من الأموال ، للسائل والمتعفف ، وما خوّلهم الله من العلوم ، للطالب والمعرض ، وهو المحروم ، فيقصدونه بالدواء بما أمكن فإنهم أطباء ، والطبيب يقصد المريض أينما وجده ، شفقةً ورحمة ، ونُصحاً للعباد . وبالله التوفيق . ثم ذكر دلائل قدرته على ما أقسم عليه من البعث ، فقال : { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } .