Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 7-14)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { والسماءِ ذات الحُبُكِ } ذات الطُرق الحسيّة ، مثل ما يظهر على الماء والرمال من هبوب الرياح ، وكذلك الطُرق التي في الأكسية من الحرير وغيره ، يقال لها : حُبُك جمع حَبيكةٌ ، كطريقة وطُرق ، أو : جمع حِباك ، قال الرَّاجز : @ كأنما جلاَّها الحوَّاكُ طِنْفَسَةً في وَشْيِها حِبَاكُ @@ والحوَّاك : صانع الحياكة ، والمراد : إما الطريق المحسوسة ، التي هي مسير الكواكب ، أو : المعنوية ، التي يسلكها النُظار في النجوم ، فإن لها طرائق . قال البيضاوي : النكتة في هذا القَسَم ، تشبيه أقوالهم في اختلافها ، وتباين أغراضها ، بطرائق السماوات في تباعدها ، واختلاف غاياتها ، وقال ابن عباس وغيره : ذات الخَلْق المستوي ، وعن الحسن : حبكها نجومها . وقال ابن زيد : ذات أشدة ، لقوله تعالى : { سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] . { إِنكم } يا أهل مكة { لفي قولٍ مختلف } متخالف متناقض ، وهو قولهم في حقه صلى الله عليه وسلم تارة : شاعر ، وأخرى ساحر ، وفي شأن القرآن ، تارة : شعر ، وأخرى أساطير الأولين { يُؤفكُ عنه مَن أُفك } يُصرف عن القرآن ، أو عن الرسول ، مَن ثبت له الصرف الحقيقي ، الذي لا صرف أفظع وأشد منه ، فكأنّ لا صرف حقيقة إلا لهذا الصرف ، أي : يُصرف عن الإيمان مَن صُرف عن كل سعادةٍ وخير ، أو : يُصرف عن الإيمان مَن صُرف في سابق الأزل . قلت : والأظهر أن يرجع لما قبله ، أي : يُصرف عن هذا القول المختلف مَن صُرف في علم الله تعالى ، وسَبقت له العناية ، يقول : أفكه عن كذا : صرفه عنه ، وإن كان الغالب استعماله في الصرف عن الخير إلى الشر ، لكنه عُرفي ، لا لغوي . والله تعالى أعلم . { قُتل الخرَّاصُون } دعاء عليهم ، كقوله : { قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وأصله : الدعاء القتل والهلاك ، ثم جرى مجرى " لُعِنَ " ، والخرَّاصون : الكذّابون المُقدِّرون ما لا صحة له ، وهم أصحاب القول المختلف ، كأنه قيل : لُعن هؤلاء الخراصون { الذي هم في غمرةٍ } في جهل يغمرهم ، { ساهون } غافلون عما أُمروا به { يسألون أيّان يومُ الدين } أي : متى وقوع يوم الجزاء ، لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة ، بل بطريق الاستعجال ، استهزاء ، فإنَّ " إيّان " ظرف للوقوع المقدّر لأن " أيّان " إنما يقع ظرفاً للحدثان . ثم أجابهم بقوله : { يومَ هم على النار يُفتنون } أي : يقع يوم هم على النار يُحرقون ويُعذّبون ، ويجوز أن يكون خبراً عن مضمر ، أي : هو يوم هم ، وبُني لإضافته إلى مضمر ، ويُؤيده أنه قُرئ بالرفع . { ذُوقوا فِتْنتكم } أي : وتقول لهم خزنة النار : ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار ، { هذا الذي كنتم به تستعجلون } أي : هذا العذاب هو الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا ، بقولكم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [ الأعراف : 70 ] فـ " هذا " : مبتدأ ، و " الذي … " الخ : خبر ، ويجوز أن يكون " هذا " بدلاً من فتنتكم ، و " الذي " : صفته . الإشارة : أقسم الله تعالى بسماء الحقائق ، وتُسمى سماء الأرواح لأن أهل الحقائق روحانيون سماويون ، ترقَّوا من أرض الأشباح إلى سماء الأرواح ، حيث غلبت روحانيتهم ، على بشريتهم ، كما أن أهل الشرائع اليابسة أرضيين بشريين ، حيث غلبت بشريتهم الطينية على روحانيتهم السماوية ، ولكل واحدٍ طُرق ، فطُرق سماء الحقائق هي المسالك التي تُوصل إليها ، وهي قَطْع المقامات والمنازل ، وخَرق الحُجب النفسانية ، حتى يُفضوا إلى مقام العيان " في مقعد صدق عند مليك مقتدر " وطُرق أرض الشرائع هي المذاهب التي سلكها الأولون ، واقتدى بهم الآخرون ، يفضوا أهلها إلى رضا الله ونعيمه . وكان الشيخ الشاذلي رضي الله عنه يقول في تلميذه المرسي : إن أبا العباس أعرف بطُرق السماء منه بطُرق الأرض ، أي : أعرف بمسالك الحقائق منه بمذاهب الشرائع ، وهذا إشارة قوله : { ذات الحُبك } أي : الطُرق . إن أهل الجهل بالله لفي قولٍ مُختلفٍ مضطرب ، لا تجد قلوبهم تأتلف على شيء ، قلوبهم متشعبة ، ونياتهم مختلفة ، وهممهم دنية ، وأقوالهم مضطربة ، بخلاف أهل الحقائق العارفين بالله ، قلوبهم مجتمعة على محبة واحدة ، وقصدٍ واحد ، وهو الله ، بدايتهم في السلوك مختلفة ، ونهايتهم متفقة ، وهو الوصول إلى حضرة العيان ، ولله در ابن البنا ، حيث قال : @ مذاهبُ الناسِ على اختلاف ومذهبُ القوم على ائتلاف @@ وقال الشاعر : @ عباراتهم شتى وحُسْنُك واحدٌ وكُلٌّ إلى ذاك الجمال يُشير @@ يُؤفك عن هذا الاختلاف مَن صُرف في سابق العناية ، أو مَن صُرف من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح . قُتل الخراصُون المعتمدون على ظنهم وحدسهم ، فعلومهم جُلها مظنونة ، وإيمانهم غيبي ، وتوحيدهم دليلي من وراء الحجاب ، لا يَسلم من طوارق الاضطراب ، الذين هم في غمرة أي : في غفلة وجهل وضلالة - ساهون عما أُمروا به من جهاد النفوس ، والسيرإلى حضرة القدوس ، أو ساهون غائبون عن مراتب الرجال ، لا يعرفون أين ساروا ، وفي أيّ بحار سَبَحوا وغاصوا ، كما قال شاعرهم : @ تركنا البحورَ الزاخراتِ وراءنا فمن أين يدري الناسُ أين توجهنا ؟ @@ { يسألون أيّان يومُ الدين } لطول أملهم ، أو يسألون أيَّان يوم الجزاء على المجاهدة . قال تعالى : هو { يوم هم } أي : أهل الغفلة - على نار القطيعة أو الشهوة يُفتنون بالدنيا وأهوالها ، والعارفون منزَّهون في جنات المعارف . ويقال للغافلين : ذُوقوا وبال فتنتكم ، وهو الحجاب وسوء الحساب ، هذا الذي كنتم به تستعجلون ، بإنكاركم على أهل الدعوة الربانيين ، فتستعجلون الفتح من غير مفتاح ، تطلبون مقام المشاهدة من غير مجاهدة ، وهو محال في عالم الحكمة . وبالله التوفيق . ثم ذكر أضدادهم ، فقال : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } .