Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 20-23)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وفي الأرض آياتٌ } دالة على كامل قدرته على البعث وغيره ، من حيث أنها مدحوة كالبساط الممهد ، وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين في أقطارها ، والسالكين في مناكبها ، وفيها سهل وجبل ، وبحر وبر ، وقِطع متجاورات ، وعيونٌ متفجرات ، ومعادن مقنية ، ودواب منبثة ، مختلفة الصور والأشكال ، متباينة الهيئات والأفعال ، وهي مع كبر شكلها مبسوطة على الماء ، المرفوع فوق الهواء ، فالقدرة فيها ظاهرة ، والحكمة فيها باهرة ، ففي ذلك عبرة { للمُوقنين } الموحِّدين ، الذين ينظرون بعين الأعتبار ، ويُشاهدون صانعها ببصير الاستبصار . { وفي أنفسكم } آيات وعجائب القدرة إذ ليس شيء في العالم إلا وفي الأنفس له نظير ، مع ما فيه من الهيئات النابعة والمصادر البهية ، والترتيبات العجيبة ، خَلَقَه نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم فصلها إلى العظم والعصب والعروق ، فالعظام عمود الجسد ، ضمّ بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال رُبطت بها ، ولم تكن عظماً واحداً لأنه إذا ذاك يكون كالخشبة ، ولا يقوم ولا يجلس ، ولا يركع ولا يسجد لخالقه ، ثم خلق تعالى المخ في العظام في غاية الرطوبة ليرطب يُبس العظام ، ويتقوّى به ، ثم خلق سبحانه اللحمَ وعباه على العظام ، وسدّ به خلل الجسد ، واعتدلت هيئته ، ثم خلق سبحانه العروق في جميع الجسد جداول ، يجري الغذاء منها إلى أركان الجسد ، لكل موضع من الجسد عدد معلوم ، ثم أجرى الدم في العروق سيالاً خاثراً ، ولو كان يابساً ، أو اكتفى مما هو فيه ، لم يجرِ في العروق ، ثم كسى سبحانه اللحمَ بالجلد كالوعاء له ، ولولا ذلك لكان قشراً أحمر ، وفي ذلك هلاكه ، ثم كساه الشعر وقايةً وزينةً ، وليّن أصوله ، ولم تكن يابسة مثل رؤوس الإبر ، وإلا لم يهنه عيش ، وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعين ولولا ذلك لأهلكهما الغبار والسقط ، وجعلها سبحانه طوع يده ، يتمكن من رَفْعِها عند قصد النظر ، ومِن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر عما يضر دِيناً ودُنيا ، وجعل شعرها صفّاً واحد لينظر من خللها ، ثم خلق سبحانه سفتين ينطبقان على الفم يصونان الحلقَ والفمَ من الرياح والغبار ، ولما فيهما من كمال الزينة ، ثم خلق الله سبحانه الأسنان ليتمكن من اقطع مأكوله وطحنه ، ولم تكن له في أول خلِقته لئلا يذي أمه ، وجعلها ثلاثة أصناف : قسم يصلح للكسر ، كالأنياب ، وقسم يصلح للقطع ، كالرباعية ، وقسم يصلح للطحن ، كالأضراس … إلى غير ذلك مما في الإنسان من عجائب الصنع وبدائع التركيب . { أفلا تُبصرون } أي : تنظرون نظر مَن يعتبر ، وما قيل : إن التقدير : أفلا تبصرون في أنفسكم ، فضعيف لأنه يُفضي إلى تقديم ما في حيّز الاستفهام عليه . { وفي السماء رزقكم } وهو المطر . وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه رزقكم إلا أنكم تُحرمونه بخطاياكم ، أو : في سماء الغيب تقدير رزقكم . فهو مضمون عند الله في سماء غيبه ، ستر ذلك بسر الحكمة ، وهو الأسباب ، { وما تُوعدون } أي : وفي السماء ما تُوعدون من الثواب لأن الجنة في السماء السابعة ، سقفها العرش ، أو : أراد : إنما تُوعدونه من الرزق في الدنيا وما تُوعدونه في العقبى كله مقدّر ومكتوب في السماء ، وقيل : إنه مبتدأ وخبره : { فَوَرَبُّ السماءِ والأرض إِنه لَحقٌّ } أي : ما توعدون من البعث وما بعده ، أو : ما توعدونه من الرزق المقسوم ، فَوَرَبِّ العالم العلوي والسفلي { إِنه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون } أي : مثل نطقكم ، شبّه ما وعد به من الرزق وغيره بتحقُّق نطق الآدمي لأنه ضروري ، يعرفه من نفسه كلُّ أحد . قال الطيبي : وإنما خصّ النطق دون سائر الأعمال الضرورية ، لكونه أبقى وأظهر ، ومن الاحتمال أبعد ، فإنّ النطق يُفصح عن كل شيء ، ويجلي كل شبهة . هـ . فَضمان الرزق وإنجاز وعده ضروري ، كنطق الناطق . رُوي عن الأصمعي أنه قال : أقبلتُ من جامع البصرة ، فطلع أعرابي على قَعود ، فقال : مَنْ الرجل ؟ فقلت : من بني أصمع ، فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من موضع يتلى فيه كلام الله ، قال : اتل عليَّ ، فتلوت : { والذاريات … } فلما بلغت قوله : { وفي السماء رزقكم } قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ، ووزعها على مَن أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما ، وولّى ، فلما حججت مع الرشيد ، وطُفت ، فإذا أنا بصوت رقيق يهتف بي ، فالتفتّ ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ ، فسلّم عليَّ ، واستقرأ السورة ، فلما بلغتُ الآية ، صاح ، وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأتُ : { فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنه لَحقٌّ } فقال : سبحان الله ! مَن الذي أغضب الجليل حتى حلف ؟ لم يُصدقوه بقوله حتى حلف ، قالها ثلاثاً ، وخرجت معها نَفْسُه . هـ . من النسفي . قلت : وقد سمعت حكاية أخرى ، فيها عبرة ، وذلك أن رجلاً سمع قارئاً يقرأ هذه الآية ، فدخل بيته ، ولزم زاوية منه يذكر فيها ، ويتبتل ، فجاءت امرأته تنقم عليه ، وتأمره بالخدمة ، فقال لها : قال تعالى : { وفي السماء رزقكم } ، فلما أيست منه ذهبت تحفر شيئاً ، فوجدت آنية مملوءة دنانير ، فجاءت إليه ، وقالت : قد أتانا رزقنا ، قم تحرفه معي ، هو في موضع كذا ، فقال : إنما قال تعالى : { في السماء } ولم يقل في الأرض ، فامتنع فذهبت إلى أخٍ لها تستعين به ، فلما فتحتها وجدتها مملوءة عقارب ، فقالت : والله لأطرحنها عليه لنستريح منه ، ففتحت كوة من السقف ، وطرحتها عليه ، فسقطت دنانير ، فقال : الآن نعم ، قد آتاني من حيث قال ربي : { وفي السماء رزقكم } . هـ . وذكر في التنوير : أن الملائكة لمّا نزلت هذه الآية ضجّت في السماء ، وقالت : ما أضعف بني آدم حتى أحوجوا ربهم إلى الحلف . الإشارة : وفي أرض نفوس العارفين آيات ، منها : أن الأرض تحمل كل شيء ، ولا تستثقل شيئاً ، فكذلك نفس العارف ، تحمل كُلَّ كَلٍّ وثقيل ، ومَن استثقل حملاً ، أو تبرّم من أحد ، أو من شيء ، ساقته القدرة إليه ، فلغيبته عن الحق ، ومطالعته الخلق بعين التفرقة ، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة . ومنها : أنها يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتُنبت كل زهر ونَور وورد ، فكذلك العارف يُلقى عليه كل جفاء ، ولا يظهر منه إلا الصفاء . ومنها أن الأرض الطيبة تُنبت الطيب ، وينصع نباتها ، والأرض السبخة لا تُنبت شيئاً ، كذلك القلوب الطيبة تُنبت كل ما يلقى فيها من الخير ، والقلوب الخبيثة لا تعي شيئاً ، ولا ينبت فيها إلا الخبيث . وقوله تعالى : { وفي أنفسكم … } قال القشيري : يُشير إلى أن النفس مرآة جميع صفات الحق ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام : " مَن عرف نفسه فقد عرف ربه " فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها ، وكمالُها : أن تصير مرآةً كاملةً تامة مصقولة ، قابلة لتجلِّي صفات الحق لها ، فيعرف نسفه بالمرآتية ، ويعرف ربه بالتجلِّي فيها ، كما قال تعالى : { سَنُرِيِهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ … } [ فصلت : 53 ] الآية . هـ . قلت : حديث : " مَن عرف نفسه " أنكره النووي ، وقال إنه من كلام يحيى بن معاذ وقد اشتهر عند الصوفية حديثاً ، ومعناه حق فإنَّ مَن عرف حقيقة نفسه ، وأنها مظهر من مظاهر الحق ، وغاب عن حس وجوده الوهم ، فقد عرف ربه وشَهِدَه ، فاطلب المعرفة في نفسك ، ولا تطلبها في غيرك ، فليس الأمر عنك خارجاً ، ولله در الششتري في بعض أزجاله ، حيث قال : @ وإليْك هو السّيْرُ * وأنْت مَعْنَى الخَيْر * وما دونَك غيْرُ @@ وقال أيضاً : @ يا قاصداً عَيْنَ الْخَبرْ غطَّاهُ أَيْنَكُ ارجع لذاتكَ واعْتَبِر ما ثمَّ غيْرَك الخيرُ منك والخبَرْ والسر عندك @@ وقوله تعالى : { وفي السماء رزقكم } قال الورتجبي : وفي سماء صفاتي رزق أرواحكم ، من مشاهدة النور ، وغذاء العلم الرباني ، وما توعدون من مشاهدة الذات وكشف عيانه . هـ . قلت : هذا قوت الأرواح ، أمّا قوت الأشباح فتجب الغيبة عنه ، ثقةً بالله ، وتوكلاً عليه . قال في قطب العارفين : اعلم أنه عزّ وجل قسَّم الأرزاق في الأزل ، وجزّأه على عمر العبد ، ووقَّت أوقاته ، وحدَّ للعبد ما يأتيه منه في السنة ، والشهر ، واليوم ، والساعة ، فكل ما حدّ لك أن تناله من رزقك عند صلاة العصر ، مثلاً ، لا تناله عند صلاة الصبح ، ولو طلبته بكل حِيلة في السموات والأرض ، فإن الطلب لا يجمع ، والتوكل لا يمنع . هـ . وقال فيه أيضاً : العارف يجد في نفسه الاعتماد على الله ، وإن كانت السماء لا تُمطر ، والأرض لا تُنبت … الخ كلامه ، ومثله قول ذي النون : لو كانت السماء من زجاج ، والأرض من نحاس لا تُنبت شيئاً ، ومصر كلها عيالي ، ما اهتممتُ لهم برزقٍ لأنَّ مَن خلقهم هو الذي تكفّل برزقهم . هـ . وقال في القطب أيضاً : ومن علامة جهل قلب العالم : خوف شدائد السنيين الآتيات ، والاستعداد لها قبل مجيئها ، بمصاحبة الاضطراب ، وفقد الطمأنينة القسمة السابقة ، فمَن اتصف بهذه الصفة فقد نازع الربوبية ، وانسلخ من العبودية . هـ . ثم سرد قصص الأمم السالفة ، وما جرى عليها لأنَّ فيها آيات ، فتنخرط في سلك الآيات المتقدمة ، فقال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } .