Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 24-37)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { هل أتاك حديثُ ضَيف إِبراهيمَ } استفتح بالاستفهام التشويقي ، تفخيماً لشأن الحديث ، وتنبيهاً على أنه ليس مما عَلِمَه رسولُ الله صلى الله علي وسلم بغير طريق الوحي . والضيف في الأصل : مصدر : كالزوْر ، والصوع ، يصدق الواحد والجماعة ، قيل : كانوا اثني عشر مَلَكاً ، وقيل : تسعة عاشرهم جبريل . وجعلهم ضيفاً لأنهم في صورة الضيف ، حيث أضافهم إبراهيم ، أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك . قوله { المُكْرَمين } أي : عند الله ، لأنهم عباد مكرمون ، أو عند إبراهيم ، حيث خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، لهم القِرَى . { إِذا دخلوا عليه } ظرف للحديث ، أو لِمَا في الضيف من معنى الفعل ، أو بالمكَرمين ، إن فسر بإكرام إبراهيم لهم ، { فقالوا سلاماً } أي : نُسلِّم عليك سلاماً ، { قال } إبراهيم : { سلامٌ } أي : عليكم سلام . عدل به إلى الرفع بالابتداء للقصد إلى الثبوت والدوام حتى تكون تحيته عليه السلام أحسن من تحيتهم ، وهذا أيضاً من إكرامه ، { قومٌ مُنكَرُون } أي : أنتم قوم مُنكَرون ، لا نعرفكم ، فعرّفوني مَن أنتم . قيل : إنما أنكرهم لأنهم ليسوا ممن عهدهم مِن الناس ، أو : لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس ، وقيل : إنما قال ذلك سِرّاً ولم يخاطبهم به ، وإلا لعرّفوه بأنفسهم . { فَرَاغَ إِلى أهله } أي : ذهب إليهم في خِفيةٍ من ضيوفه ، فالروغان : الذهاب بسرعة ، وقيل : في خفية . ومن آداب المضيف أن يبادر الضيف : بالقِرَى ، وأن يخفى أمره من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يكفّه ، وكان عامة مال إبراهيم البقر . { فجاء بعِجْلٍ سمينٍ } الفاء فصيحة تُفصح عن جُملٍ حّذفت لدلالة الحال عليها ، وإيذاناً بكمال سرعة المجيء ، أي : فذبح عجلاً فَحَنَذَه ، فجاء به ، { فقرَّبه إِليهم } بأن وضعه بين أيديهم حسبما هو المعتاد ، فلم يأكلوا ، فـ { قال ألا تأكلونَ } أنكر عليهم ترك الأكل ، أو : حثَّهم عليه ، { فَأَوْجسَ } أضمر { منهم خيفةَ } خوفاً ، لتوهُّم أنها جاؤوا للشر لأن مَن لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمِامك . عن ابن عباس رضي الله عنه : وقع في نفسه أنهم ملائكة أُرسلوا للعذاب . { قالوا لا تَخَفْ } إنَّا رُسل الله . قيل : مسح جبريل العِجْل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه ، فعرفهم وأمِن منهم ، { وبشَّروه بغلام عليم } أي : يبلغ ويكون علماً ، وهو إسحاق عليه السلام . { فأقبلت امرأتُه } سارة لمَّا سمعت بشارتهم إلى بيتها ، وكانت في زاوية منه تنظر إليهم ، { في صَرَّةٍ } صيحة ، من الصرير ، وهو الصوت ، ومنه : صرير الباب وصرير الأقلام . قال الزجَّاج : الصرّة : شدّة الصياح . وفي القاموس الصرّة : - بالكسر : أشد الصياح ، وبالفتح : الشدة من الكرب والحرن والحر والعطفة والجماعة وتغضيب الوجه . هـ . ومحله النصب على الحال ، أي فجاءت صارة ، وقيل : صرتها : قولها : { يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ … } [ هود : 72 ] أو : فجاءت مغضّبة الوجه ، كما هو شأن مَن يُخبر بشيء غريب ، استبعاداً له ، { فصَكَّتْ وجهها } لطمته ببسط يدها ، وقيل : ضربت بأطراف أصابعها جبهتها ، فعل المتعجِّب ، { وقالت عجوزٌ عقيم } أي : إنها عجوز عاقر ، فكيف ألد ؟ ! . { قالوا كذلك } أي : مثل ما قلنا وأخبرناك به { قال ربك } أي : إنما نُخبرك الله تعالى ، والله قادر على ما يُستعبد ، { إِنه هو الحكيمُ } في فعله ، { العليمُ } فلا يخفى عليه شيء ، فيكون قوله حقاً ، وفعله متقناً لا محالة . رُوي أن جبريل عليه السلام قال لها حين استبعدت : انظري إلى بيتك ، فنظرت ، فإذا جُذوعُهُ مورقة مثمرة ، ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط ، بل هي وإبراهيمُ عليه السلام حاضر ، حسبنا شُرح في سورة الحجر ، وإنما لم يذكرها اكتفاء بما ذكر هناك ، كما أنه لم يذكر هناك سارة ، اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود . ولمّا تحقق أنهم ملائكة ، ولم ينزلوا إلا لأمر ، { قال فما خطبكم } أي : فما شأنكم وما طِلبتكم وفيمَ أُرسلتم ؟ { أيها المرسَلون } هل أُرسلتم بالبشارة خاصة ، أو لأمر آخر ، أو لهما ؟ { قالوا إِنا أُرسلنا إِلى قوم مجرمين } أي : قوم لوط ، { لِنُرسل عليهم حجارةٌ من طين } أي : طين متحجر ، هو السجّيل ، وهو طينٌ طُبخ ، كما يُطبخ الآجر ، حتى صار في صلابة الحجارة ، { مسوَّمة } مُعلَّمةً ، على كلِّ واحد اسم مَن يهلك بها ، من السّومة وهي العلامة ، أو : مرسلة ، من أسمت الماشية : أرسلتها ، ومر تفصيله في هود { عند ربك } أي : في مُلكه وسلطانه { للمسرفين } المجاوزين الحدّ في الفجوز . { فأخْرجنا مَن كان فيها } الفاء فصيحة ، مُفصحة ، عن جُمل قد حُذفت ، ثقةً بذكرها في مواضع أُخر ، كأنه قيل : فباشروا ما أُمروا به ، فذهبوا إلى لوط ، وكان مِن قصتهم ما ذكر في موضع آخر ، { فأخرجنا مَنْ كان فيها } أي : مِن قرى قوم لوط { من المؤمنين } يعني لوطاً ومَن آمن معه . قيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجو ثلاثةَ عشر . { فما وجدنا فيها غيرَ بيتٍ } أي : غير أهل بيت { من المسلمين } وفيه دليل على أن الإسلام والإيمان واحد ، أي : باعتبار الشرع ، وأما في اللغة فمختلف ، والإسلام محله الظاهر ، والإيمان محله الباطن . { وتركنا فيها } أي : في قُراهم { آيةَ للذين يخافون العذابَ الأليم } أي : مِن شأنهم أن يخافوا لسلامة فطرتهم ، ورقة قلوبهم ، وأما مَن عداهم من ذوي القلوب القاسية ، فإنهم لا يعتبرون بها ، ولا يعدونها آية . الإشارة : الإشارة بإبراهيم إلى القلب ، وأضيافه : تجليات الحق ، فنقول حينئذ : هل بلغك حديث إبراهيم القلب ، حين يدخل عليه أنوار التجليات ، مُسلِّمة عليه ، فيُنكرها أول مرة ، حيث لم يألف إلا رؤية حس الكائنات ، فرغ إلى أهله : عوالمه ، فجاء بعِجْل سمينٍ : النفس أو السِّوى ، فقربّه إليهم ، بذلاً لها في مرضاة الله ، فقال : ألا تأكلون منها ، لتذهب عني شوكتها إذ لا تثبت أنوار الشهود إلا بعد محق النفس وموتها ، فأوجس منهم خيفة لان صدمات التجلي تدهش الألباب ، إلا مَن ثبته الله ، قالوا : لا تخف ، أي : لا تكن خوَّافاً ، إذ لا ينال هذا السر إلا الشجعان ، كما قال الجيلاني : @ وإِيَّاكَ حَزْماً لا يَهُولُكَ أَمْرُها فَمَا نَالَهَا إلا الشُّجَاعُ المُقَارعُ @@ { وبشَّروه بغلامٍ عليم } وهو نتيجة المعرفة ، من اليقين الكبير ، والطمأنينة العظمى ، فأقبلت النفس تصيح ، وتقول : أألد هذا الغلام ، من هذا القلب ، وقد كبر على ضعف اليقين ، وأنا عجوز ، شِخْتُ في العوائد ، عقيم من علوم الأسرار ؟ ! فتقول القدرة : { كذلك قال ربك } هو عليَّ هيِّن ، أتعجيبن من قدرة الله ، " مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته ، وأن يُخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدراً " إنه هو الحكيم في ترتيب الفتح على كسب المجاهدة ، العليم بوقت الفتح ، وبمَن يستحقه . قال إبراهيم القلب أو الروح : فما خطبكم أيها الجليات ، أو الواردات الإلهية ، { قالوا إنا أُرسلنا إلى قوم مجرمين } وهم جند النفس ، { لنُرسل عليهم حجارة من طين } مسومةً عند ربك للمسرفين ، وهم الأذكار والأوراد والمجاهدات والرياضات والمعاملات المهلِكة للنفس وأوصافها ، { فأخرجنا مَن كان فيها من المؤمنين } ، سالمين من الهلاك ، وهو ما كان لها من الأوصاف الحميدة ، والعلوم الرسمية ، إذا لا تُخرِج المجاهدة إلا مَن كان مذموماً ، فما وجدنا فيها من ذلك إلا النذر القليل إذ معاملة النفس جُلها مدخولة ، وتركنا فيها آيةً من تزكية النفس ، وتهذيب أخلاقها ، { للذين يخافون العذاب الأليم } ، فيشتغلون بتزكيتها لئلا يلحقهم ذلك العذاب . ثم ذكر آيات أخرى في بقية الأمم ، فقال : { وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ } .