Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 38-49)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { وفي موسى } : عطف على { وفي الأرض } ، أو على قوله : { وتركنا فيها آية } على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله : @ علفتها تبناً وماءً بارداً @@ و { إذ أرسلناه } : منصوب بآيات ، أو : بمحذوف ، أي : كائنة وقت إرسالنا ، أو بتَركنا . يقول الحق جلّ جلاله : { وفي موسى } آية ظاهرة حاصلة { إِذ أرسلناه إِلى فرعون بسلطانٍ مبين } بحجة واضحة ، وهي ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة ، { فَتَولَّى بِرُكْنِه } فأعرض عن الإيمان وازوَرّ عنه { برُكنه } بما يتقوى به من جنوده ومُلكه ، والركن : ما يركن إليه الإنسان من عِزٍّ وجند ، { وقال } في موسى : هو { ساحرٌ أو مجنون } كأنه نسب ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد هل ذلك باختياره وسعيه ، أو بغيرهما . { فأخذناه وجنودَه فنبذناهم في اليمِّ } وفيه من الدلالة على عِظَمِ شأن القدرة الربانية ، ونهاية حماقة فرعون ما لا يخفى ، { وهو مُليمٌ } آتٍ بما يُلام عليه من الكفر والطغيان . { وفي عادٍ إِذ أرسلنا عليهم الريحَ العقيمَ } وُصفت بالعقيم لأنها أهلكتهم ، وقطعت دابرهم ، أو : لأنها لم تتضمن خيراً مَّا ، من إنشاء مطرٍ ، أو إلقاح شجرٍ ، وهي الدَّبور ، على المشهور ، لقوله عليه السلام : " نُصرتُ بالصَّبَا ، وأُهلكت عادٌ بالدَّبور " ، { وما تذرُ من شيءٍ أتتْ عليه } أي : مرت عليه { إلا جعلته كالرميم } وهو كل ما رمّ ، أي : بلي وتفتت ، من عظم ، أو نبات ، أو غير ، والمعنى : ما تركت شيئاً هبتَ عليه من أنفسهم وأموالهم إلا أهلكته . { وفي ثمودَ } آية أيضاً { إِذ قيل لهم تمتعوا حتى حينٍ } تفسيره قوله تعالى : { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] رُوي أن صالحاً قال لهم : تُصبح وجوهكم غداً مصفرة ، وبعد غدٍ مُحْمَرة ، وفي الثالث مسودة ، ثم يُصحبكم العذاب ، { فَعَتوا عن أمر ربهم } استكبروا عن الامتثال ، { فأخذتهم الصاعقةُ } العذاب ، وكل عذاب مُهلك صاعقة . قيل : لما رأوا العلامات من اصفرار الوجوه ، واحمرارها ، واسودادها ، التي بُنيت لهم ، عَمدوا إلى قتله عليه السلام فنجّاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ، وتقدّم في النمل ، ولمّا كان ضحوة اليوم الرابع تحنّطوا وتكفّنوا بالأنطاع ، فأتتهم الصيحة ، فهلكوا ، كبيرهم وصغيرهم وهم ينظرون إليها ويُعاينونها جهراً ، { فما استطاعوا من قيامٍ } من هرب ، أو هو من قولهم : ما يقوم بهذا الأمر : إذا عجز عن دفعه . { وما كانوا منتصِرِين } ممتنعين من العذاب بغيرهم ، كما لم يمتنعوا بأنفهسم . { وقومَ نوح } أي : وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه ، أو : واذكر قوم نوح ، ومَن قرأ بالجر فعطف على ثمود ، أي : وفي قوم نوح آية ، ويؤديه قراءة عبد الله " وفي قوم نوح " { مِن قبل } أي : قبل هؤلاء المذكورين ، { إِنهم كانوا قوماً فاسقين } خارجين عن الحدود بما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وإذاية نوح عليه السلام . { والسماء بَنَيْنَاها } من باب الاشتغال ، أي : بنينا السماء ، بنيناها { بأيدٍ } بقوة ، والأيد : القوة ، { وإِنا لمُوسِعون } لقادرين ، من الوسع ، وهو الطاقة ، والمُوسِع : القويُّ على الإنفاق ، أو : لموسعون بين السماء والأرض ، أو : لموسعون الأرزاق على مَن نشاء ، وهو تتميم كما تمّم ما بعده بقوله : { فَنِعْمَ الماهدون } لزيادة الامتنان . { والأرضَ فرشناها } بسطناها ومهّدناها لتستقروا عليها ، { فنِعْمَ الماهدون } نحن . { ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زوجين } نوعين ذكر وأنثى ، وقيل : متقابلين ، السماء والأرض والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، الموت والحياة . قال الحسن : كل شيء زوج ، والله فرد لا مِثل له . { لعلكم تذكَّرون } أي : جعلنا ذلك كله ، من بناء السماء ، وفرش الأرض ، وخلق الأزواج ، لتذكَّروا ، وتعرفوا أنه خالق الكل ورازقهم ، وأنه المستحق للعبادة ، وأنه قادر على إعادة الجميع ، وتعملوا بمقتضاه . وبالله التوفيق . الإشارة : وفي موسى القلب إذ أرسلناه إلى فرعون النفس ، بسلطانٍ ، أي : بتسلُّط وحجة ظاهرة ، لتتأدب وتتهذب ، فتولى فرعون النفس برُكنه ، وقوة هواه ، وقال لموسى القلب : ساحر أو مجنون ، حيث يأمرني بالخضوع والذل ، الذي يفرّ منه كلُّ عاقل ، طبعاً ، فأخذناه وجنوده من الهوى والجهل والغفلة ، فنبذناهم في اليمِّ في بحر الوحدة ، فلما غرقت في بحر العظمة ، ذابت وتلاشت ، ولم يبقَ لها ولا لجنودها أثر ، وهو - أي : فرعون النفس - مُليم : فَعل ما يُلام عليه من الميل إلى ما سوى الله قبل إلقائه في اليم . وفي عادٍ ، وهي جند النفس وأوصاف البشرية ، من التكبُّر ، والحسد ، والحرص ، وغير ذلك ، إذ أرسلنا عليهم الريحَ العقيم ريح المجاهدة والمكابدة . أو : ريح الواردات القهرية ، ما تذر من شيء من الأوصاف المذمومة إلا أهلكته ، وجعلته كالرميم . وفي ثمود ، وهم أهل الغفلة ، إذ قيل لهم : تمتعوا بدنياكم إلى حين زمان قليل مدة عمركم القصير ، فعتوا : تكبّروا عن أمر ربهم ، وهو الزهد في الدنيا ، والخضوع لمَن يدعوهم إلى الله ، فأحذتهم صاعقة الموت على الغفلة والبطالة ، وهم لا ينظرون إلى ارتحالهم عما جمعوا ، فما استطاعوا من قيام ، حتى يدفعوا ما نزل بهم ، ولو افتدوا بالدنيا وما فيها ، وما كانوا ممتنعين من قهرية الموت ، فرحلوا بغير زاد ولا استعداد . وقوم نوح من قبل ، وهو مَن سلف من الأمم الغافلة ، إنهم كانوا قوماً فاسقين خارجين عن حضرتنا . والسماء ، أي : سماء الأرواح ، بنيناها ورفعناها بأَيد ، ورفعنا إليها مَن أحببنا من عبادنا ، وإنا لمُوسعون على المتوجهين إلينا في المعارف والأنوار ، والعلوم والأسرار ، والأرض وأرض النفوس ، فرشناها للعبودية ، والقيام بآداب الربوبية ، فنِعم الماهدون ، مهدنا الطريق لذوي التحقيق ، ومن كل شيء من تجليات الحق ، خلقنا ، أي : أظهرنا زوجين ، الحسن والمعنى ، الحكمة والقدرة ، الشريعة والحقيقة ، الفرق والجمع ، الملك والملكوت ، الأشباح والأرواح ، الذات والصفات ، فتجلى الحق جلّ جلاله بين هذين الضدين ليبقى الكنز مدفوناً ، والسر مصوناً ، ولو تجلّى بضد واحد لبطلت الحكمة وتعطلت أسرار الربوبية ، فمَن لم يعرف الله تعالى في هذين الضدين ، لم يعرفه أبداً ، ومَن لم يُفرق بين هذين الضدين ، في هذه الأشياء المذكورة ، لم تنسج فكرته ، فصفاء الغزول هو التمييز بين هذين الضدين ، ذوقاً ، وبينهما تنسج الفكرة ، وبالغيبة عن الأول في شهود الثاني يحصل القرب إلى الله تعالى ، كما أبان ذلك في قوله : { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } .