Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 52, Ayat: 29-43)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { فذكِّرْ } أي : فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم ، { فما أنت بنعمتِ ربك } أي : بحمده وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل { بكاهنٍ ولا مجنونٍ } كما زعموا ، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون ، { أم يقولون شاعرٌ نتربصُ به رَيْبَ المَنونِ } أي : حوادث الدهر ، أي : ننتظر به نوائب الزمان حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله ، زهير والنابغة . و " أم " في هذه الآي منقطعة بمعنى " بل " . { قل تربصوا فإِني معكم من المتربصين } أتربّص هلاككم ، كما تتربصون هلاكي . وفيه عِدة كريمة بإهلاكهم ، وقد جرب أنّ مَن تربص موت أحد لِينال رئاسته ، أو ما عنده ، لا يموت إلا قبله . { أم تأمرهم أحلامُهم } أي : عقولهم { بهذا } التناقض في المقالات ، فإنَّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور ، والمجنون مُغطى عقله ، مختل فكره ، والشاعر يقول ما لا يفعل ، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد ؟ وكانت قريش يُدْعَون أهل الأحلام والنُهي ، فكذبهم ما صدر منهم من هذه المقالات المضطربة ، { أم هم قوم طاغُون } يجُازون الحدودَ في المكابرة والعناد ، ولا يحومون حول الرشد والسداد . وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز . { أم يقولون تَقوَّله } اختلقته من تلقاء نفسه ، { بل لا يؤمنون } ردّ عليهم ، أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل لكفرهم وعنادهم يقذفون بهذه الأباطيل ، التي لا يخفى بطلانها على أحد ، فكيف يقدر البشر أن يأتي بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم ، { فليأتوا بحديثٍ مِثْلِه } أي : مثل القرآن في البلاغة والإعجاز { إِن كانوا صادقين } في أن محمداً تقوّله من تلقاء نفسه لأنه بلغاتهم ، وهم فصحاء ، مشاركون له صلى الله عليه وسلم في العربية والبلاغة ، مع ما لهم من طُول الممارسة للخطب والأشعار ، وكثرة المقاولة للنظم والثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ، ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به مع دواعي الأمر بذلك من تعجيزهم وإفحامهم وطلب معارضتهم . { أم خُلقوا من غير شيءٍ } أي : أم أُحدثوا وقُدّروا هذا التقدير البديع ، الذي عليه فطرتهم ، من غير محدث ومقدّر . أو : أم خُلقوا من غير شيء من الحكمة ، بأن خُلقوا عبثاً ، فلا يتوجه عليهم حساب ولا عقاب ؟ { أم هم الخالقون } المُوجدون لأنفسهم ؟ فيلزم عليه الدور ، وهو تقدُّم الشيء على نفسه وتأخُّره عنها ، { أم خَلقوا السماوات والأرض } فلا يعبدون خالقِهما { بل لا يُوقنون } لا يتدبرون في الآيات ، فيعلمون خالقهم ، وخالق السموات والأرض ، فيُفردونه بالعبادة . { أم عندهم خزائنُ ربك } من النبوة والرزق وغيرهما ، فيخصُّوا بما شاؤوا مَن شاؤوا ، { أم هم المصَيْطِرون } أي : الأرباب الغالبون ، المُسلَّطون على الأمور يدبرونها كيف شاؤوا ، حتى يُدبروا أمر الربوبية ، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم . وقرأ المكي والشامي بالسين على الأصل . { أم لهم سُلَّمٌ } منصوب يرتقون به إلى السماء ، { يستمعون فيه } كلامَ الملائكة ، وما يُوحى إليهم من علم الغيب ، حتى يعلموا أن ما هم عليه حق ، وما عليه غيرهم باطل ، أو ما هو كائن من الأمور التي يتفوّهون بها رجماً بالغيب ، ويعلّقون بها أطماعهم الفارغة من هلاكه صلى الله عليه وسلم قبلهم ، وانفرادهم بالرئاسة . و " في " : سببية ، أي : يستمعون بسبب حصولهم فيه ، أو : ضمّن " يستمعون " يعرجون . وقال الزجاج : { يستمعون فيه } أي : عليه ، { فليأت مُستمعهم بسلطانٍ مبين } بحجة واضحة ، تصدق استماع مستمعهم . ثم سفَّه أحلامهم بقوله : { أم له البناتُ ولكم البنونَ } حيث اختاروا لله ما يكروهون وهم حكماء في زعمهم ، { أم تسألُهم أجراً } على التبليغ والإنذار { فهم } لأجل ذلك { من مَغْرَم مُثقلون } أي : من التزام غرامة فادحة محمّلون الثقل ، فلذلك لا يتبعونك . والمغرم : أن يُلزم الإنسان ما ليس عليه . { أم عندهم الغيبُ } أي : اللوح المحفوظ ، المكتوب فيه الغيوب ، { فهم يكتبون } ما فيه ، حتى يتكلمون في ذلك بنفي أو إثبات . { أم يُريدون كيداً } هو كيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ، { فالذين كفروا } وهم المذكورون ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر ، أي : فـ { هم المكِيدُونَ } الذين يحيق بهم كيدّهم ، ويعود عليه وبالُه ، لا مَن أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر وغيره . { أَم لهم إِلهٌ غيرُ الله } يمنعهم من عذابه ، { سبحان الله عما يُشركون } أي : تنزيهاً له عن إشراكهم ، أو : عن شركة ما يُشركونه به . وحاصل ما ذكر الحق وتعالى من الإضرابات : أحد عشر ، ثمانية طعنوا بها في جانب النبوة ، وثلاثة في جانب الربوبية ، وهو قوله : { أم خُلقوا من غير شيء } ، { أم خَلقوا السماوات والأرض } ، { أم لهم إله غير الله } ذكرها الحق تعالى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي : كما طعنوا في جنابك طعنوا في جانبي ، فاصبر حتى نأخذهم . الإشارة : فذكِّر أيها الخليفة للرسول ، فما أنت بحمد الله بكاهنٍ ولا مجنونٍ ، وإن رموك بشيء من ذلك . قال القشيري : قد علموا أنه صلى الله عليه وسلم بريء من الكهانة والجنون ، ولكنهم قالوه على جهة الاشتفاء ، كالسفيه إذا بسط لسانه فيمن يشنأُه ، بما يعلم أنه بريء مما يقوله . هـ . وكل ما قيل في جانب النبوة يُقال مثله في جانب الولاية ، سُنَّة ماضية . قال القشيري : طبع الإنسان متنفرة من حقيقة الدين ، مجبولة على حب الدنيا والحظوظ ، لا يمكن الخروج منها إلا بجهد جهيد ، على قانون الشريعة ، ومتابعة الرسول عليه السلام وخلفائه ، وهم العلماء الربانيون ، الراسخون في العلم بالله ، من المشايخ المُسلِّكين في كل زمان ، والخلق مع دعوى إسلامهم يُنكرون على سيرهم في الأغلب ، ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة ، والانقطاع عن الخلق ، والتبتُّل إلى الله ، وطلب الأمن . كتب الله في قلوبهم الإيمان ، وأيَّدهم بروح منه ، وهو الصدق في الطلب ، وحسن الإرادة المنتجَة من بذر { يُحبهم ويُحبونه } وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . هـ . مختصراً . وقوله تعالى : { قل تربصوا … } الآية ، قال القشيري : ولا ينبغي لأحد أن يتمنى نفاق سوقه بموت أحد ، لتنتهي النوبة إليه ، قَلَّ ما تكون هذه صفته إلا سَبَقَته منيتُه ، ولا يدرك ما تمناه . هـ . وقال في مختصره : الآية تُشير إلى التصبُّر في الأمور ، ودعوة الخلق إلى الله ، والتوكُّل على الله فيما يجري على يد عباده ، والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين . هـ . وقوله : { أم تأمرهم أحلامُهم بهذا } … إلى قوله : { عما يشركون } هذه صفة أهل الانتقاد على أهل الخصوصية في كل زمان ، وهي تدلّ على غاية حمقهم وسفههم ، نجانا الله من جميع ذلك . ثم هدّدهم بعد تبيين عنادهم ، فقال : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } .