Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 26-30)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { كم } : خبرية ، تفيد التكثير ، ومحلها : رفع بالابتداء ، والجملة المنفية : خبر ، وجمع الضمير في { شفاعتهم } لأن النكرة المنفية نعم . يقول الحق جلّ جلاله : { وكم من ملكٍ في السماوات } أي : كثير من الملائكة { لا تُغني شفاعتُهم } عند الله تعالى { شيئاً } من الإغناء في وقت من الأوقات ، { إِلا مِن بعد أن يأذن اللّهُ } لهم في الشفاعة { لمَن يشاء } أن يشفعوا له ، { ويرضَى } ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان ، وأما مَنْ عداهم من أهل الكفر والطغيان فيهم عن إذن الله بمعزلٍ ، وعن الشفاعة بألف معزلٍ ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر ، فما ظنهم بحال الأصنام ؟ ! ثم شنَّع عليهم في اعتقادهم الفاسد في الملائكة ، فقال : { إِنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة } وما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي { ليُسمُّون الملائكةَ } المنزّهين عن سمات النقص { تسميةَ الأنثى } فإن قولهم : الملائكة بنات الله ، قول منهم بأن كُلاً منهم بنته - سبحانه ، وهي التسمية بالأنثى ، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنهم في الشناعة واستتباع العقوبة بحيث لا يجترئ عليها إلا مَن لا يؤمن رأساً . { وما لهم به من علم } أي : بما يقولون . وقرىء " بها " أي " بالتسمية ، أو بالملائكة . { إِن يتبعونَ إِلا الظن } وهو تقليد الآباء ، { وإن الظن } أي : جنس الظن ، ولذلك أظهر في موضع الإضمار ، { لا يُغني من الحق شيئاً } من الإغناء لأن الحق عبارة عن حقيقة الشيء ، وهو لا يُدرك إلا بالعلم ، والظن لا اعتداد به في باب المعارف الحقيقية ، وإنما يُعتد به في العمليات وما يؤدي إليها . { فأعْرِضْ عَمَّن تولى عن ذِكْرِنا } أي : عنهم ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة ، ولتعليل الحكم ، أي : فأعرض عمن تولى عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني ، وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين ، المذكِّر بالأمور الآخرة ، أو : عن ذكرنا كما ينبغي ، فإن ذلك يستتبع ذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها ، قال الطيبي : أعرِضْ عن دعوة مَن تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة ، وهو يقول : { ماهي إلا حياتنا الدنيا … } الخ ، { ولم يُرِدْ إِلاَّ الحياةَ الدنيا } وزخارفها ، قاصراً نظره إليها ، والمراد بالإعراض عنه : إهماله والغيبة عنه ، فإنَّ مَن أعرض عن الذكر ، وانهمك في الدنيا ، بحيث كانت هي منتهى همته ، وقصارى سعيه ، لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عناداً ، وإصراراً على الباطل . { ذلك } أي : ما هم فيه من التولِّي ، وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو { مبلغُهم من العلم } أي : منتهى علمهم ، لا يكادون يُجاوزونه إلى غيره ، فلا تُجدي فيهم الدعوة والإرشاد شيئاً . وجمع الضمير بعد أن أفرده باعتبار معنى " مَن " ولفظها ، والمراد بالعلم : مطلق الإدراك الشامل للظن الفاسد . { إِنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمَن اهتدى } أي : هو أعلم بالضال والمهتدي ومجازاتهما ، وهو تعليل الأمر بالإعراض ، وتكرير " هو أعلم " لزيادة التقرير ، وللإيذان بكمال تباين المعلومين ، أي : هو المبالغ في العلم بمَن لا يرعوي عن الضلال ، ومَن يَقبل الاهتداء في الجملة ، فلا تتعب نفسك في دعوتهم ، فإنهم من القبيل الأول . الإشارة : شفاعة كل أحد على قدر جاهه وتمكُّنه من الله ، فقد يشفع الوليّ في أهل زمانه ، كما تقدّم في مريم . والاعتقاد في الملائكة : أنهم أنوار لطيفة من تجليات الحق ، اللطافة فيهم أغلب ، لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة ، يتشكلون كيف شاؤوا . وقوله تعالى : { فأعْرِض عن من تولى عن ذكرنا … } الآية ، فيه تحذير من مخالطة الغافلين والصحبة لهم ، فإنَّ صُحبتهم سُم قاتل ، والجلوس معهم تضييع وبطالة ، إلا أن يستولي نورُ مَن يصحبهم على ظلمتهم ، فيجرّهم إلى الله ، فهذا جلوسه معهم كمال ، وقال بعضهم : الوحدة أفضل من الجلوس مع العامة ، والجلوس مع الخاصة أفضل من العزلة ، إلا مَن تحقق كماله ، فلا كلام معه . إشارة أخرى : { وكم من ملك … } الخ ، أي : كثير من الأرواح الصافية السماوية لا تُغني شفاعتها في الأنفس الظلمانية الطبيعية ، لتنقلها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، إلا مِن بعد أنْ يأذن اللّهُ لمَن يشاء انتقاله وعروجه إلى سماء الأرواح ، ويرضى أن يُسكنه في الحضرة القدسية . إن الذين لا يؤمنون بالحالة الآخرة ، هي الانتقال من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، ويُنكرون على مَن يُوصل إليها ، لَيُسَمُّون الخواطر القلبية بتسمية الخواطر النفسانية ، أي : لا يُميِّزون بينهما ، لجهلهم بأحوال القلوب ، ما لهم به - أي : بهذا التمييز - من علم ، إن يتبعون في جُلّ اعتقاداتهم إلا الظن القوي ، وإنَّ الظن لا يُغني عن الحق شيئاً ، فلا ينفع مقام الإيمان إلا الجزم عن دليل وبرهان ، ولا في مقام الإحسان إلا شهود الحق بالعيان ، فمَن لم يحصل هذا فهو غافل عن ذكر الله الحقيقي ، يجب الإعراض عنه ، قال تعالى : { فأعْرِضْ عن من تولى عن ذكرنا ولم يُرد إلا الحياة الدنيا } وزخارفها ، ذلك مبلغهم من العلم ، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون . وقال اللجائي ، في قطبه : وإياك أن تكون دنياك إرادة قلبك تبعاً لشهوات نفسك ، أو تكون دنياك أحب إليك من آخرتك ، وقلبك من ذكر مولاك خالياً معرضاَ ، فإنها صفة الهالكين ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { فأعْرِض عن من تولى عن ذكرنا … } الآية . وقيل لأبي الحسن الشاذلي : يا سيدي ، بمَ فُقْتَ أهلَ عصرك ، ولم نرَ كل كبير عمل ؟ فقال : بخصلة ، أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتمسكتُ بها أنا ، وهي الإعراض عنكم وعن دنياكم . هـ . إن ربك هو أعلم بمَن ضَلَّ عن طريق الوصول إليه ، وهو أعلم بمن اهتدى إليها ، فيُعينه ، ويجذبه إلى حضرته ، فإن الأمر كله بيده ، كما قال تعالى : { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } .