Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 31-32)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } خَلقاً وملِكاً ، لا لغيره ، لا استقالاً ولا اشتراكاً ، { ليَجزي الذين أساؤوا بما عمِلوا } بعقاب ما عملوا من السوء ، أو : بسبب ما عملوا ، { ويجزَي الذين أحسنوا بالحسنى } بالمثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، والمعنى : أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم والعلوي والسفلي ، وتصرّف فيه بقدرته بين جلاله وجماله ، ليجزي المحسن من المكلّفين ، والمسيء منهم إذ من شأن الملك أن ينصر أولياءه ويُكرمهم ، ويقهر أعدائه ويُهينهم . وقال الطيبي : " ليجزي " راجع لقوله : { هو أعلم بمَن ضَلَّ … } الآية ، والمعنى : إنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ وبمَن اهتدى ليجزي كل واحد بما يستحقه ، يعني : أنه عالم ، كامل العلم ، قادر ، تام القدرة ، يعلم أحوال المُكلَّفين فيُجازيهم ، لا يمنعه أحدٌ مما يريده لأنَّ كل شيء من السموات والأرض ملكه ، وتحت قهره وسلطانه ، فقوله : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } : جملة معترضة ، توكيد للاقتدار وعدم المعارض . هـ . { الذين يجتنبون كبائِرَ الإثم } : بدل من الموصول الثاني ، أو : رفع على المدح ، أي : هم الذين يجتنبون . والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الاجتناب واستمراره . وكبائر الإثم : ما يكبر عقابه من الذنوب ، وهو ما رتّب عليه الوعيد بخصوصه . قال ابن عطية : وتحرير القول في الكبائر : إنها كل معصية يُوجد فيها حَدّ في الدنيا ، أو توعّد عليها بنار في الآخرة ، أو بلَعنةٍ ونحوها . وقرأ الأخوان : كبير الإثم على إرادة الجنس ، أو الشرك ، { و } يجتنبون { الفواحشَ } وهو ما فَحُشَ من الكبائر ، كأنه قيل : يجتنبون الكبائر وما فحش منها خصوصاً ، فيحتمل أن يريد بالكبائر : ما فيه حق الله وحده ، والفواحش منها : ما فيه حق الله وحق عباده ، { إِلا اللممَ } أي : إلا ما قَلَّ وصَغُر ، فإنه مغفور لمَن يجتنب الكبائر ، وقيل : هي النظرة والغمزة والقُبلة ، وقيل : الخطرة من الذنب ، وقيل : كل ذنب لم يجعل الله فيه حَدّاً ولا عذاباً . والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر ولا من الفواحش . { إِنَّ ربك واسِعُ المغفرة } حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو : حيث يغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة ، وهذا أحسن ، { هو أعلم بكم إِذا أنشأكم } في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام { من الأرض } إنشاءً إجمالياً ، حسبما مرّ تحقيقه مراراً ، { وإِذا أنتم أَجِنةٌ } أي : يعلم وقت كونكم أجنّة { في بُطون أمهاتكم } على أطوار مختلفة ، لا يخفى عليه حالٌ مِن أحوالكم ، ولا عمل من أعمالكم . { فلا تُزكُّوا أنفسكم } فلا تنسبوها إلى زكاء الأعمال ، وزيادة الخير والطاعات ، أو : إلى الزكاة والطهارة من المساوئ ، ولا تُثنوا عليها ، واهضموها ، فقد علم اللّهُ الزكيَّ منكم والتقِيّ ، قبل أن يُخرجكم من صُلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم . وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ، ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجّنا ، فنزلت . وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء ، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة ، والتحدُّث بها ، فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكرها . والأحسن في إيراد الاعتراف والشكر أن يُقدم ذكر نقصه ، فيقول مثلاً : كنا جُهالاً فعلَّمنا الله ، وكنا ضُلاَّلاً فهدانا الله ، وكنا غافلين فأيقظنا الله ، وهكذا نحن اليوم كذا وكذا . قال ابن عطية : ويُحتمل أن يكون نهياً عن أن يُزَكِّي بعضُ الناس بعضاً ، وإذا كان هذا ، فإنما ينهى عن تزكية السَّمع ، أو القطع بالتزكية ، ومن ذلك الحديث في " عثمان بن مظعون " عند موته ، وأما تزكية القدوة أو الإمام ، أو أحداً ، ليؤتم به أو لِيَتَهَمَّمَ الناس بالخير ، فجائز ، وقد زكَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وغيره ، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة ؟ للضرورة إليها ، وأصل التزكية : التقوى ، والله تعالى أعلم بتقوى الناس منكم . هـ . وقال في القوت : هذه الذنوب تدخل على النفوس من معاني صفاتها ، وغرائز جبلاتها ، وأول إنشائها من نبات الأرض ، وتركيب الأطوار في الأرحام ، خَلْقٍ مِن بعد خلقٍ ، ومن اختلاط الامشاج بعضها مع بعض ، ولذلك عقبه بقوله : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم … } الآية . هـ . ثم قال تعالى : { هو أعلم بمن اتقى } فاكتفوا بعلمه عن علم الناس ، وبجزائه عن ثناء الناس . وبالله التوفيق . الإشارة : ولله ما في سموات الأرواح من أنوار الشهود ، وما في أرض النفوس من آداب العبودية ، رتَّب ذلك ليجزي الذين أساؤوا بوقوفهم مع أرض النفوس في العالم المحسوس ، ويجزي الذين آمنوا بترقيهم إلى مقام الإحسان ، بالحسنى ، وهي المعرفة ، حيث ترقّوا من أرض الأشباح إلى عالم سماء الأرواح ، ، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم وهو شهود وجودهم مع وجود الحق محبوبهم ، ووقوفهم مع عالم الحس ، والفواحش ، وهو اعتراضهم على الله فيما يبرز من عُنصر قدرته ، وتصغيرهم شيئاً مما عظَّم الله ، إلا اللمم خواطر تخطر ولا تثبت . قال القشيري : كبائر الإثم ثلاث : محبة النفس الأمّارة ، ومحبة الهوى النافخ في نيران النفس ، ومحبة الدنيا ، التي هي رأس كل خطيئة ، ولكل واحدة من هذه الثلاث فاحشة لازمة لها ، أما فاحشة محبة النفس : فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة ، وأما فاحشة محبة الهوى : فحُب الدنيا وشهواتها ، وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله ، والإقبال على ما سواه . وقوله { إلا اللمم } أي : الميل اليسير إلى الهوى والنفس والدنيا ، بحسب ضرورته البشرية مِن استراحة البدن ، ونيل قليل من حظوظ الدنيا ، بحسب الحقوق ، لا بحسب الحظوظ ، فإنَّ مباشر الحقوق مغفور ، ومباشر الحظوظ مغرور . هـ . { إِنَّ ربك واسعُ المغفرة } يستر العيوب ، ويُوصل إلى حضرة الغيوب . هو أعلم بكم إذ أنشأكم من أرض البشرية ، ورقّاكم إلى عالم الروحانية ، وإذ أنتم أَجنة في أول بدايتكم في بطون أمهاتكم ، في بطون الهوى والغفلة ، ودائرة الكون ، فأخرجكم منها بمحض فضله ، فلا تُزكُّوا أنفسكم ، فتنظروا إليها بعين الرضا ، أو تنسبوا إليها شيئاً من الكمالات قبل صفائها . قال القشيري : تزيكة المرء نفسه علامة كونه محجوباً لأنَّ المجذوب عن بقائه ، المستغرق في شهود ربِّه ، لا يُزكِّي نفسه . هـ . قلت : هذا ما دام في السير ، وأما إن حصل له الوصول فلا نفس له ، وإنما يُزكّي ربه إذا زكّاها ، هو أعلم بمَن اتقى ما سواه . ثم ذكر وبال مَن زكى نفسه ، فقال : { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ } .