Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 41-57)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { وأصحابُ الشمال ما أصحابُ الشمال } تفظيع لشأنهم ، والشمال والمشأمة واحد . { في سَمُوم } في حرّ نار تنفذ في المسامّ ، { وحميم } وماء حارّ ، تناهي في الحرارة ، { وظِلٍّ من يَحْمُوم } من دخان أسود بهيم ، { لا باردٍ } كسائر الظلال ، { ولا كريم } فيه خير مّا في الجملة ، سمّاه ظلاًّ ، ثم نفى عنه برد الظل ورَوْحَه ونفعَه لمَن يأوي إليه من أذى الحر ، وذلك كرمه - ليمحي عنه ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه ، والمعنى : أنه ظلٌّ حار ضارّ . { إِنهم كانوا قبل ذلك } أي : في الدنيا { مُتْرَفِينَ } منعّمين بأنواع النِعَم ، من المآكل والمشارب ، والمساكن الطيبة ، والمقامات الكريمة ، منهمكين في الشهوات ، فمَنَعَهم ذلك من الانزجار ، وشَغَلَهم عن الاعتبار . وهو تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب ، { وكانوا يُصِرُّون } يُداومون { على الحِنْثِ العظيم } أي : على الذنب العظيم ، وهو الشرك لأنه نقض عهد الميثاق ، وخروج عن طاعة الملك إلى نصر غيره . والحنث : نقض العهد الموثّق باليمين ، أو : الكفر بالبعث ، لقوله : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] ، ثم صار يُطلق على مطلق الذنب ، ومنه : بلغ الغلامُ الحنث ، أي : وقت الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب . { وكانوا يقولون } لغاية عتوهم : { أئِذا مِتْنَا وكنا تراباً وعظاماً } أي : إذا صارت أجزاؤنا من الجلد والعظم واللحم ، بعضها تراباً ، وبعضها عظاماً نخرة ، نُبعث بعد ذلك ؟ وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابها حيواناً . والعامل في " إذا " ما دلّ عليه قوله : { أئنا لمبعوثون } أي : أنْبعث إذا صرنا في هذه الحالة ؟ ولا يعمل فيه لفظه لأنّ " إنّ " والاستفهام لا يعمل ما بعدها فيما قبلهما ، { أَوَ آباؤنا الأولون } يُبعثون أيضاً ؟ دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف ، وحسن العطف على المضمر في { لمبعوثون } من غير توكيدٍ بـ " نحن " للفاصل الذي هو الهمزة ، يعنون بذلك : أن بعث آبائهم أبعد في الوقوع من بعثهم . وقرئ في السبع بأو العاطفة . ثم ردّ عليهم بقوله : { قل إِنّ الأولين والآخِرين } أي : إنّ الأولين من الأمم المتقدمين ، الذين من جملتهم آباؤكم ، والآخرين ، الذين من جملتهم أنتم . وفي تقديم " الأولين " مبالغة في الرد ، حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد مع مراعاة الترتيب ، { لمجموعون } بالبعث { إِلى ميقاتٍ يومٍ معلوم } أي : إلى ما وقتت به الدنيا باعتبار فنائها من يوم معلوم ، وهو يوم البعث والحساب ، والإضافة بمعنى " من " كخاتم فضة . { ثم إِنكم أيها الضالون } عن الهدى { المكذِّبون } بالبعث ، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم ، { لآكلون } بعد البعث والجمع ودخول جهنم { مِن شجرٍ مِن زقوم } " مِن " الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : لبيان الشجر . { فمالئُون منها البطونَ } أي : بطونكم من شدة الجوع ، { فشاربون عليه } عقب ذلك بلا ريث { من الحميم } الماء الحار . أنّث ضمير الشجر على المعنى ، وذكَّره على اللفظ في " منها " و " عليه " . { فشاربون شُرْبَ الهِيم } وهي الإبل التي بها الهُيَام ، وهو داء يُصيبها فتشرب ولا تروَى ، أي : لا يكون شربكم شراباً معتاداً ، بل يكون مثل شرب الإبل الهيم ، واحدها : " هيماء وأَهْيَم " وحاصل الآية : أنه يُسلط عليهم من الجوع ما يضطرون معه إلى أكل الزقوم ، الذي هو كالمهل ، وإذا ملأوا منه البطون يُسلّط عليهم ما يضطرّهم إلى شرب الحميم ، الذي يُقَطِّع أمعاءهم ، فيشربونه شرب الهِيم ، وإنما صحّ عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متّفقة ، لأنَّ كونهم شاربين الحميم مع ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء ، أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كشرب الهِيم الماء أمر عجيب أيضاً ، فكانت صفتين مختلفتين . { هذا نُزلُهم } النُزل : هو الرزق الذي يُعدّ للنازل تكرمةً له ، { يَوْمَ الدَّينِ } يوم الجزاء ، فإذا كان نُزلهم هذا ، فما ظنك بعدما استقر بهم القرار ، واطمأنت بهم الدار في النار ؟ وفيه من التهكُّم ما لا يخفى . { نحن خلَقناكم فلولا } فلاّ { تُصَدِّقُونَ } تحضيض على التصديق ، إمَّا بالخَلق لأنهم وإن كانوا مصدّقين به إلاّ أنه لمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذّبون به ، وإمّا بالعبث لأنّ مَن خلَق أولاً لم يمتنع عليه أن يَخلق ثانياً . الإشارة : أصحاب الشمال هم أهل الخذلان من العصاة والجُهال ، في سَموم الجهل والبُعُد ، ينفذ في مسام أرواحهم وقلوبهم ، وحميم الحرص والتعب ، والجزع والهلع ، وظِلٍّ من يحموم ، وهو التدبير والاختيار ، لا بارد ولا كريم ، أي : ليس كظل الرضا وبرد التسليم ، بل هو ظل مشؤوم ، حاجب عن شمس العيان ، مُوقع في ظل الذل والطمع والهوان . إنهم كانوا قبل ذلك قبل وقت وصول العارفين مُترفين متنعمين في الحظوظ ، منهمكين في الشهوات ، وكانوا يُصِرُّون على الحنث العظيم ، وهو حب الدنيا ، الذي هو رأس كل خطيئة ، وكانوا يُنكرون بعث الأرواح من الجهل إلى العرفان ، ويقولون : { أئذا متنا وكنا تراباً } ، أي : أرضيين بشريين ، وعظاماً يابسين بالقسوة والبُعد ، { أئنا لمبعوثون } من هذه الموتة إلى حياة أرواحنا بالعلم والمعرفة ؟ والحاصل : أنهم كانوا ينكرون وجود أهل التربية الذي يُحيي اللّهُ بهم القلوبَ والأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة . قل إنَّ الأولين منكم الذين كانوا على هذا الوصف ، والآخرين إلى يوم القيامة ، لمجموعون إلى الحضرة ، إذا صَحِبوا أهل التربية ، فيفتح الله عليهم إلى ميقات يوم معلوم ، وهو الحد الذي سبق لفتحهم . ثم إنكم أيها الضالون المكذّبون المنكِّرون لوجود الطبيب ، الذي يُحيي الأرواح الميتة والقلوب ، { لآكلون من شجر من زقوم } وهي شجرة الجهل وتوارد الشكوك والخواطر على قلوبكم ، فمالئون منها بطونكم ، بحيث لا يبقى في بواطنكم متسع لأنوار اليقين والمعرفة ، فشاربون على ذلك من الحميم ، وهو الغضب والتدبير والاختيار ، { فشاربون شُرب الهيم } ، لا يملُّون منه ليلاً ولا نهاراً ، كذا يَظلُّون يَبنون ويَهدمون ، وهو عين البطالة والتضييع . { هذا نُزلهم يوم الدين } ، أي : يوم يُجازِي الحقُّ المتوجهين إليه بالوصال وراحة الاتصال . { نحن خلقناكم } : أنشأناكم من العدم ، فلولا تُصدِّقون في إحياء أرواحكم بالعلم والمعرفة بعد موتها ، فإنّ القادر على إنشاء الأشباح قادر على إحياء الأرواح . والله تعالى أعلم . ثم برهن على ذلك ، فقال : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } .