Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 58-74)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { أفرأيتم ما تُمْنُون } أي : تقذفونه في الأرحام من النُطف ، { أأنتم تخلقونه } تُقدِّرونه وتُصورونه وتجعلونه بشراً سويّاً { أم نحن الخالقون } من غير علة ولا علاج " ؟ قال الطيبي : وجه الاستدلال بهذه الآية على البعث أن يُقال : إنّ المَني إنما يحصل من فضلة الهضم ، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء ، وبهذا تشترك الأعضاء بالتذاذ الوقاع لحصول الانحلال عنها كلها ، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى يُسلط قوة الشهوة على البنية ، حتى إنها تجمع تلك الأجزاء الطلّية ، والحاصل أن تلك الأجزاء كانت مفْترقة جدّاً أولاً في أطراف العالم ، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان ، فتفرّقت في أطراف بدنه ، ثم جمعها الله في أوعية المَني ، فأخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرحم ، فإذا كان قادراً على جمع هذه الأجزاء المتفرقة ، وتكوين الحيوان منها ، فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى لم يمتنع عليها جمعها وتكوينها مرة أخرى . هـ . وذَكَرَ عند قوله تعالى : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَآئِبِ } [ الطارق : 7 ] أنَّ المني يتولد من فضلة الهضم الرابع ، وينفصل من جميع أجزاء البدن ، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته ، ومعظمُهُ يتولد من الدماغ ، وهو أعظم الأعضاء معنويةً فيه . انظر بقيته في الحاشية . { نحن قدَّرنا بينكم الموتَ } أي : قسمناه ووقّتنا موت كل أحد بوقت معين ، حسبما تقتضيه قسمتنا ، المبنية على الحِكَم البالغة . قال القشيري : فيكون في الوقت الذي نريده ، منكم مَنْ يموت طفلاً ، ومنكم مَن يموت شابّاً ، وكهلاً وشيخاً ، وبعللٍ مختلفة ، وبأسباب متفاوتة ، وأوقاتٍ مختلفة . هـ . { وما نحن بمسبوقين } بعاجزين { على أن نُبَدَّلَ أمثالَكم } بل نحن قادرون على ذلك ، لا تسبقونني ولا تغلبونني على أن نُذهبكم ، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق ، والتبديل يكون بالذات أو بالصفات ، { ونُنشِئَكم فيما لا تعلمون } ونخلقكم بعد التبديل في صورة لا تعهدونها . قال الحسن : نجعلكم قردةً وخنازير ، يعني : إنَّا نقدر على الأمرين جميعاً ، أي : خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم . و { أمثال } إمّا جمع " مِثْل " بالسكون - وهو التبديل بالذات ، أو : " مَثَل " بالفتح ، وهو التبديل في الصفات ، أي : على أن نُبدّل ونُغيّر صفاتكم التي أنتم عليها ، وننشِئَكم في صفات لا تعلمونها . { ولقد علمتم النشأةَ الأولى } أي : فطرة آدم عليه السلام : أو : خلقتهم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة … الخ ، { فلولا تَذَكَّرُون } فهلاَّ تذكرون أنْ مَن قدر عليها قدر على النشأة الأخرى . ولمّا ذكّرهم بنعمة الإيجاد ، ذكّرهم بنعمة الإمداد ، فقال : { أفرأيتم ما تحرثون } أي : ما تبذرون حبه وتقلِبون الأرض عليه ، { أأنتم تزرعونه } أن : تُنبتونه وتُخرجونه من الأرض نباتاً { أم نحن الزارعون } المُنبِتون له ؟ وفي الحديث : " لا يقل أحدكم ، زرعت ، وليقل : حرثت " { لو نشاء لجعلناه حُطاماً } هشيماً منكسِراً قبل إدراكه ، { فَظَلْتم } بسبب ذلك { تَفَكَّهُون } تتعجَّبُون من سوء حاله إثر ما شهدتموه على أحسن ما يكون ، أو : تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه ، أو : على ما اقترفتم من المعاصي التي أُصبتم لذلك من أجلها ، و " تفكه " من أفعال الإزالة ، كتخرّج ، وتأثّم ، أي : أزال الفُكَاهة ، وهي المسرة ، فتحصل الندامة ، { إِنَّا لمُغْرَمُونَ } أي : قائلين : إنّا لملزمون غرامةَ ما أنفقنا فيها ، أو : لمهلَكون لِهلاك قوتنا ، من : الغرام ، وهو الهلاك ، { بل نحن محرومون } حُرمنا ما رزقنا بشؤم تفريطنا ، فالمحروم هو الممنوع الرزق . قال ابن عباس : " هو المحارَف " الذي انحرف عنه رزقه . { أفرأيتم الماءَ الذي تشربون } أي : الماء العذب الصالح للشرب ، { أأنتم أنزلتموه من المُزنِ } السحاب الأبيض ، وهو أعذب ماءٍ ، أو مطلق السحاب ، واحدها " مزنة " ، { أم نحن المنزلون } بقدرتنا ، فأسكناه في الأرض ، ثم أخرجناه عيوناً وأنهاراً ؟ { لو نشاء جعلناه أُجَاجاً } أي : ملحاً ، أو مُرّاً لا يُقْدَر على شربه ، { فلولا } فهلاَّ { تشكرون } تحضيض على شكر الكل ، وحذف اللام هنا مع إثباتها في الشرطية الأولى لأنّ هذه اللام تُفيد معنى التأكيد ، فأُدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم متقدم على أمر المشروب ، وأنْ الوعيد بفقده أشد وأصعب ، مِن قِبَل أنّ المشروب إنما يُحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قُدِّمت آية المطعوم على آية المشروب ، وقيل غير ذلك في حكمة إدخالها . { أفرأيتم النارَ التي تُورون } أي : تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ، والعرب كانت تقدح بعودين ، تحك أحدهما على الآخر ، ويُسمون الأعلى : الزند ، والسفلى : الزندة ، شبّهوهما بالفحل والطروقة . { أأنتم أنشأتم شجرتَهَا } التي بها الزناد ، وهي المرْخ والعَفَار ، { أم نحن المنشئون } الخالقون لها ابتداءً بقدرتنا ؟ والتعبير عن خلقها بالنشأ ، المنبئ عن بديع الصنع ، المُعْرِب عن كمال القدرة والحكمة لِما فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر الأشجار ، التي لا تخلو عن النار ، حتى قيل : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعَفَار ، كما أنّ التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] كذلك . ثم بيَّن منافعها ، فقال : { نحن جعلناها تذكرةً } تذكيراً لنار جهنم ، لينظروا إليها ، ويذكروا ما وُعدوا به من نار جهنم ، أو : تذكرة وأنموذجاً ، لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نارُكم هذه التي يُوقدها بنو آدم هي جزءٌ من سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم " وقيل : تبصرة في أمر البعث فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب ، { ومتاعاً للمُقْوين } منفعة للمقوين المسافرين الذي ينزلون القِواء ، وهو القفر . وفي القاموس : القِيُّ : فقر الأرض ، كالِقواء - بالكسر والمد : القفر . هـ . وتخصيصهم بذلك لأنهم أحوج إليها فإنّ المقيمين والنازلين بقرب منازلهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد ، أو : للذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام ، من قولهم : أَقْوت الدار : إذا خلت من ساكنها . والأول أحسن . بدأ أولاً بنعمة الإيجاد ، ثم بإمداد الطعام ، ثم بالشراب ، وما يُعجن به من الطعام ، ثم بما يطبخ به فلا يؤكل الطعام إلاّ بعد هذه الثلاث ، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيّاً في حكم العادة . ولمَّا ذكر دلائل توحيده وقدرته ، أمر بتنزيهه عمَّا لا يليق بحاله لأنّ العقل إذا أدرك الصانع سما إلى درك كنهه ، فربما يقع في التشبيه أو التجسيم أو التعطيل ، فقال : { فَسَبِّح باسم ربك } أي : فنزّه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل ، فأراد بالاسم المسمى ، والباء صلة ، أي : نزَّه ربك { العظيم } أو : نزّه ربك ملتبساً بذكر اسمه . والعظيم : صفة للرب ، أو للاسم ، لأن المراد به المسمى . والله تعالى أعلم . الإشارة : أفرأيتم أيها المشايخ ما تُمْنون من نُطف الإرادة في قلوب المريدين ، أأنتم تخلقونه في قلوبهم حتى تنبت فيها بذرة الإرادة ، وتهيج شجرة المحبة ، فتُثمر بالمعرفة ، أم نحن الخالقون ؟ نحن قدّرنا بينكم الموت ، فمنكم مَن يموت الموت الحسي أو المعنوي قبل الوصول ، ومنكم مَن يموت بعد الوصول ، والموت المعنوي : هو الرجوع عن السير ، ولا يكون إلاَّ قبل الوصول ، وما نحن بمسبوقين على أن نُبدل أمثالكم ، ونُغيّر صفاتكم ، فإنّ القلوب بيد الله ، وننشئكم فيما لا تعلمون من الجهل والبُعد . ولقد علمتم النشأة الأولى ، التي كنتم عليها حال الغفلة والبطالة قبل ملاقاة الرجال ، أفلا تذكرون فتشكرون على نعمة اليقظة والمعرفة . أفرأيتم ما تحرثون من الأعمال والأحوال والمجاهدات والرياضات ، أأنتم تزرعونه ، أي : تُنبتونه حتى يُقبل منكم ، وتجنون ثماره ، أم نحن الزارعون ؟ لو نشاء لأبطلناه ورددناه فنجعله هباءً منثوراً ، فظلتم تندمون على ما فات منكم من المشاق ، حيث لم تجنوا ثمرتها ، تقولون : إنّا لمغرمون ، حيث افتقرنا ودفعنا أموالنا في حال الجذبة الأولى ، بل نحن محرمون من ثمار مجاهدتنا وطاعتنا ، أفرأيتم الماء الذي تشربون ، وهو ماء الحياة الذي تحيا به القلوب ، تشربونه بوسائط المشايخ ، يزقّه الشيخُ لروح المريد ، كما يزق الطيرُ أفراخه ، وبذلك تحيا روحه ، فتغيب عن عوالم حسها ، أأنتم أنزلتموه من سحاب الهداية والعناية ، أم نحن المنزِلون ؟ لو نشاء جعلناه أُجاجاً فَتَمجه الروحُ بعد شربها ، أو تمتنع من شربه ، فالأول للداخلين إذا لم تسعفهم رياح المقادير ، فتنكسر سفينة سيرهم بعد الركوب ، والثاني للطالبين المحرومين من أرزاق المعرفة . فلولا تشكرون هذه النعم ، حيث وفقكم لشرب الخمر ، ودمتم حتى سكرتم وصحوتم ، وحييت بها أرواحكم وأشباحكم . أفرأيتم النار نار الشهوة التي تُورون تقدحونها في نفوسكم ، أأنتم أنشأتم شجرتها ، وهي النفس الطبيعية ، أم نحن المنشئون ؟ نحن جعلناها تذكرة ، أي : إيقاظاً توقظ صاحبها ليتلجئ إلى مولاه ، وفي الحِكَم : " وحرَّك عليك النفس ليُديم إقبالك عليه " : وجعلناها متاعاً للسائرين إذ بجهادها يتحقق سيرهم ، وبتصفيتها يتحقق كمالهم ، وبفنائها يتحقق وصولهم ، وكان شيخ شيخنا حين يشتكي له أحد له بنفسه ، يقول : أما أنا فجزاها علي خيراً ، ما ربحت إلاّ منها . وقال القشيري : { أفرأيتم النار … } الخ ، يشير إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة ، بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوكه وشجرتها هي العناية الإلهية ، يدل على هذا قول العارف أبي الحسن المنصور - قدّس الله سره - حين سُئل عن حقيقة المحبة ، فقال : هي العناية الإلهية السرميدة ، لولاها ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، فنحن جلعناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية ، ليهدتوا بها إلى سلوك طريق الحق ، ومتاعاً للمُوقين ، أي غذاء أرواح المحبين ، الطاوين أياماً وليالي من الطعام والشراب ، كا رُوي عن سهل التستري : أنه كان يطوي ثلاثين يوماً ، وعن أبي عقيل المغربي : أنه ما أكل ستين سنة وهو مجاور بمكة ، وعن كثيرين من السالكين المرتاضين . هـ . وقوله تعالى : { فسبِّح باسم ربك العظيم } قال الورتجبي : أَمَرَه أن ينزهه لا بنفسه بل بربه ، ثم قال : والاسم والمسمى واحد ، أي : قدسني بي فإني أعظم من أن تُقدسني بنفسك ، أو بشيء دوني ، ألا ترى إشارة قوله : { العظيم } أي : عظم جلاله أن يبلغ إلى أن تمدحه الخليقة ، وأن تصِفة البرية . هـ . ثم أقسم على حقيّة القرآن المنزَّل بهذه الأخبار الغيبية ، من العبث وغيره ، فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } .