Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 16-17)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ألم يأن } : مجزوم بحذف الياء ، من : أَنَى يأنِي ، كمَضَى يمضي : إذا حان وقرب . و { أن تخشع } : فاعل . و { لا يكونوا } : عطف على " تخشع " ، وقرأ رويس عن يعقوب بالخطاب ، فيكون التفاتاً للاعتناء بالتحذير ، أو نهياً . يقول الحق جلّ جلاله : { ألم يَأْنِ } ألم يحضر ، أو يقرب { للذين آمنوا أن تخشع قُلوبُهم لذكر الله } أو : ألم يجيء وقت خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى ، وتطمئن به ، ويسارعون إلى طاعته ، بالامثال لأوامره والاجتناب لنواهيه . قيل : كانوا مجدبين بمكة ، فلما هاجروا وأصابوا الرزق والنعمة ، ففتروا عما كانوا عليه ، فنزلت . وبه تعلم أنَّ الشدة هي عين الرخاء ، وأنَّ الجلال هو الجمال ، وأين هو حبيبك ثَمَّ هو عدوك . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين . وعن ابن عباس رضي الله عنه : استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن . وعن أبي بكر رضي الله عنه : إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه ، وعنده قوم من أهل اليمامة ، فبكوا بكاءً شديداً ، فنظر إليهم فقال : " هكذا كنا حتى قست قلوبنا " . قلت : مراده بالقسوة : التصلُّب والتثبُّت للورادات ، وذلك أنَّ القلب في البدايات يكون رطباً مغلوباً للأحوال والواردات ، يتأثر بأدنى شيء ، فإذا استمر مع الأنوار والواردات استأنس بها وتصلّب واشتد ، فلا تؤثر فيه الواردات ، فيكون مالكاً للأحوال ، لا مملوكاً ، وهذا أمر ذَوقْي ، يرتفع البكاء عن العارفين ، ويظهر على الصالحين والطالبين . وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل ، كان صاعداً لجارية ، فسمع قارئاً يقرأها ، فقال : قد آن الخشوع والرجوع ، فتاب . والمراد بذكر الله ذكر اسمه تعالى على أي لفظ كان ، كقوله : { إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ … } [ الأنفال : 2 ] الآية ، أو : القرآن ، فيكون قوله : { وما نَزَلَ من الحق } عطف تفسير ، أو لتغاير العنوانين ، فإنه ذِكْرٌ وموعظة ، كما أنه حقٌّ نازل من السماء . والمراد بالخشوع : الإنابة والخضوع ، ومتابعة الأمر والنهي . { ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبلُ } أي : اليهود والنصارى ، { فطال عليهم الأمدُ } الزمن بينهم وبين أنبيائهم ، { فقست قلوبُهم } باتباع الشهوات ، وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمِعوا التوراة خشعوا له ، ورقَّت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلب عليهم الجفاء والقسوة ، واختلفوا . قال ابن مسعود : إن بني إسرائيل لمّا طال عليهم الأمد قست قلوبُهم ، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم ، استحلته أنفُسِهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم ، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم ، كأنهم لا يعلمون ، ثم قالوا : اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل ، فإن تابعوكم فاتركوهم ، وإلاَّ فاقتلوهم . ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم ، [ وقالوا ] : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، وإلاَّ قتلتموه ، فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقة ، وجعلها في قرن ، وعلقها في عنقه ، ثم لبس عليه ثيابه ، وأتاهم ، فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومئ إلى صدره ، وقال : آمنتُ بهذا - يعني المعلَّق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة . هـ . قال تعالى : { وكثيرُ منهم فاسقون } خارجون عن دينهم ، رافضون لما في الكتابين ، أي : وقليل منهم مؤمنون ، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم . وقال ابن عطية : الإشارة بقوله : { أوتوا الكتاب } إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام ، ولذلك قال : { من قبل } ، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي ، وقوله : { فطال عليهم الأمدُ } قيل : أمد الحياة ، وقيل : أمد انتظار القيامة . هـ . وقال مقاتل : { الأمد } هنا : الأمل ، أي : لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم . هـ . قيل : إن الصحابة ملُّوا ملالة ، فقالوا : حدِّثنا ، فنزل : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] ، وبعد مدة قالوا : لو ذَكَّرتَنا ، فنزلت هذه السورة . وهذه الآية { اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتها } قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب ، وأنه يُحييها كما يُحيي الغيثُ الأرض ، وفيه إرشاد إلى أنَّ طريق زوال القسوة ليس إلاَّ الالتجاء إلى الله ، ونفى الحول والقوة لأنه تعالى القادر وحده على ذلك ، كما أنه وحده يُحيي الأرض ، { قد بيّنا لكم الآيات } التي من جملتها هذه الآية ، { لعلكم تعقلون } كي تعقلوا ما فيها ، وتعملوا بموجبها ، فتفوزوا بسعادة الدارين . والله تعالى أعلم . الإشارة : خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور ، فيغيب الذاكر في المذكور ، وهو الفناء ، والخشوع لسماع ما نزل من الحق : أن يسمعه من الحق ، لا من الخلق ، وهو أقصى درجات المقربين . ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية لأنه طال بهم الأمل ، وتنافسوا في الرئاسة ، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة ، حتى قست قلوبهم ، وخرجوا عن الإرادة بالكلية ، قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان ، وموجِبُ القسوة : انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ ، ويقال : موجب القسوة أوله خطرة ، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة ، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة ، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة ، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً ، وبعد ذلك طبع ودين . هـ . وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير ، كما قال : @ إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ @@ اعلموا أن الله يُحيي أرض القلوب بالعلم والمعرفة ، بعد موتها بالغفلة والجهل ، قد بيَّنَّا الآيات لمَن يتدبّر ويعقل . ثم رغَّب في الصدقة ، فقال : { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ } .