Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 18-19)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { المصدقين } مَن قرأ بالتشديد فيهما فاسم فاعل ، من : تصدّق ، أدغمت التاء في الصاد ، ومَن قرأ بتخفيف الصاد فاسم فاعل صدّق . و { أقرضوا } : عطف على الصلة ، أي : إن الذين تصدّقوا وأقرضوا . يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ المصدِّقين والمصدِّقات } أي : المتصدقين بأموالهم والمتصدقات أو : المصدقين بالله ورسوله والمصدقات ، { وأقرضوا اللّهَ قرضاً حسناً } وهو أن تتصدّق من كسبٍ طيبٍ ، بقلب طيب ، { يُضاعف لهم } بأضعاف كثيرة إلى سبعمائة ، { ولهم أجرٌ كريمٌ } الجنة وما فيها . وقد ورد في الصدقات أحاديث ، منها : أنها تدفع سبعين باباً من السوء ، وتزيد البركة في العمر . رُوي أن شابّاً وشابة دخلا على سليمان عليه السلام فعقد لهما النكاح ، وخرجا من عنده مسرورين ، وحضر ملك الموت ، فقال : لا تعجب من سرورهما ، فقد أُمرت أن أقبض روح هذا الشاب بعد خمسة أيام ، فجعل سليمانُ يراعي حالَ الشاب ، حتى ذهبت ستة أيام ، ثم خمسة أشهر ، فعجب من ذلك ، فدخل عليه ملك الموت ، فسأله عن ذلك ، فقال : إني أُمرت أن أقبض روحه كما ذكرتُ لك ، فلما خرج من عندك لقيه سائل ، فدفع له درهماً ، فدعا له بالبقاء ، فأُمرت بتأخير الأمر عنه ببركة صدقته . هـ . وانظر عند قوله : { يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } [ الرعد : 38 ] ، ومثله قضية الرجل الذي آذى جيرانَه ، فدعا موسى عليه السلام عليه ، ثم تصدَّق صبيحة اليوم برغيف ، فنزل الثعبان ، فلقيته الصدقة فسقط ميتاً على حزمة حطبه . { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون } المبالغون في التصديق ، أو الصدق ، وهو أولى لأنّ وزن المبالغة لا يساغ من غير الثلاثي في الأكثر إلا نادراً ، كمسّيك من أمسك . { و } هم أيضاً { الشهداءُ عند ربهم } وظاهره : أن كل مَن آمن بالله ورسله ينال درجة الصدّيقين ، الذين درجتهم دون درجة الأنبياء ، وفوق درجة الخواص ، وأنَّ كل مَن آمن ينال درجة الشهداء ، وليس كذلك ، فينبغي حمل قوله : { آمَنوا } على خصوص إيمان وكماله ، وهم الذين لم يشكّوا في الرسل حين أخبَروهم ، ولم يتوقفوا ساعة ، أي : سبقوا إلى الإيمان ، واستشهدوا في سبيل الله . وسيأتي في الإشارة حقيقة الصدّيق . وقيل : كل مَن آمن بالله ورسله مطلق الإيمان فهو صدّيق وشهيد ، أي : ملحق بهما ، وإن لم يتساووا في النعيم ، كقوله : { وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيِنَ وَالصِّدِّيقِينَ … } [ النساء : 69 ] . والحاصل على هذه العبارة : الترغيب في الإيمان والحث عليه ، وهو وارد في كلام العرب في مبالغة التشبيه ، تقول : فلان هو حاتم بعينه ، إذا شابهه في الجود ، ويؤيد هذا حديث البراء بن عازب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مؤمنو أمتي شهداء " قال مجاهد : كل مؤمن صدّيق وشهيد ، أي : على ما تقدّم ، وإنما خصّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكرَ الشهداء السبعة تشريفاً على رتب الشهداء غيرهم ، ألا ترى أنَّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً بتشريف ينفرد به ، وقال بعضهم : معنى الشهداء هنا : أنهم يشهدون على الأمم . قال ابن عباس ومسروق والضحاك : الكلام تام في قوله : " الصدّيقون " ، وقوله : " الشهداء " استئناف كلام ، أي : والشهداء حاضرون عند ربهم ، أو : والشهداء { لهم أجرهم ونورهم } عند ربهم ، قال أبو حيان : والظاهر : أن " الشهداء " مبتدأ ، خبره ما بعده . هـ . قلت : الظاهر : أنَّ الآية متصلة ، فكل مؤمن حقيقي صدّيق وشهيد ، أي : يلحق بهم ، وقوله : { لهم أجرهم ونورهم } أي : لهم أجر الصدّيقين ونورهم ، على التشبيه ، ولا يبلغ المشبَّه درجة المشبَّه به . وإذا قيّدنا الإيمان بالسبق ، فالمعنى لهم أجرهم كامل ونورهم تام ، ويؤيد عدم التقييد : ذكر ضده عقبه ، كما هو عادة التنزيل ، بقوله : { والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } . الإشارة : إنَّ المصدّقين والمصدّقات ، وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله - ومَن كان في الله تلفه كان على الله خَلَفَه - وأقرضوا الله قرضاً حسناً ، أي : قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه ، وحصروه في حضرة الله ، يُضاعف لهم أنوارهم وأسرارهم ، ولهم أجر كريم ، شهود الذات الأقدس ، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون } فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد ، قال الورتجبي : هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة ، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله ، والانقياد بين يدي أمره ونهيه ، فأولئك هم الصدّيقون لأنهم معادن الإخلاص واليقين ، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية ، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان ، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته ، مطروحون في بحر وصلته ، يَحْيون بجماله ، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله ، وبفناء الكون في عظمة الله ، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله ، يشهدون لهم وعليهم لِصدق الفراسة لأنهم أمناء الله ، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة . هـ . وقال القشيري : الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه ، ويقال : هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق ، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ ، ولا يجنح إلى التأويلات ، والشهداء : الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة ، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة ، ونُورهم : ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد . هـ . ولمّا كان الزهد شرطاً في هذا المقام ذكر تحقير الدنيا ليقع الزهد فيها ، فقال : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } .