Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 20-21)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ } كلعب الصبيان ، { وَلَهوٌ } كلهو الفتيان ، { وزِينَةٌ } كزينة النسوان ، { وتفاخر بينكم } كتفاخر الأقران ، { وتكاثرٌ } كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - { في الأموال والأولاد } أي : مباهاة بهما . والتكاثر : الاستكثار ، والحاصل : أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء ، فضلاً عن الاطمئنان بها ، وأنها مع ذلك سريعة الزوال ، وشيكة الاضمحلال ، ولذلك قال : { كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ } أي : الحُرّاث ، من : كَفَرَ الحبَ : ستره ، ويقال : كفرت الغمامُ النجومَ : سترتها ، أي : أعجب الزراع { نباتُه } أي : النبات الحاصل منه ، { ثم يَهيجُ } أي : يجف بعد خضرته ونضارته ، { فتراه مُصْفراً } بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً ، وإنما لم يقل : ثم تراه إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه . { ثم يكون حُطاماً } متفتتاً متكسراً ، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث ، فاستوى وقوي ، وأعجب به حُرّاثه ، أو : الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه العاهة ، فهاج ، واصفرّ وصار حطاماً . وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا ، والجري عليها ، وأمّا ما كان منها في طاعة الله ، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد ، وتُعين الطاعات ، فلا يدخل في هذا المثل ، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً ، حَسن المنظر والهيئة ، ثم يأخذ في النقص والهرم ، ثم يموت ، ويضمحل أمره ، وتصير الأموال لغيره . قال القشيري : الدنيا حقيرة ، وأحقرُ منها قَدْراً : طالبُها ، وأقلُّ منها خَطَراً : المُزاحِم فيها ، فما هي إلاّ جيفة ، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر ، وأخسُّهم مَن يبخل بها . وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة ، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا . هـ . { وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ } لمَن أعرض عن الله ، { ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ } لمَن أقبل على الله ، وزهد فيما سواه . والحاصل : أنّ الدنيا ليست إلاَّ محقراتٍ من الأمور ، وهي اللعب ، واللهو ، والزينة ، والتفاخر ، والتكاثر ، وأمّا الآخرة فما هي إلا أمورٌ عِظام ، وهي العذاب الشديد ، والمغفرة ، والرضوان من الله الحميد . والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع ، خبر بعد خبر ، { وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور } لمَن ركن إليها ، واعتمد عليها ، ومتاع الغرور : هو الذي يظهر ما حسن منه ، ويبطن ما قبح ، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم ، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً ، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً ، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها ، ويغفلون عن الاستعداد ، والعمر يفنى من يدهم في البطالة ، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين . قال ذو النون : يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا ، وإن طلبتموها فلا تحبوها ، فإنّ الزاد منها ، والمَقيل في غيرها . ولمَّا حقَّر الدنيا ، وصغّ أمرها ، وعظّم أمر الآخرة ، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك ، وهي المغفرة والرضوان ، فقال : { سابِقوا } بالأعمال الصالحة { إِلى مغفرة من ربكم } أو : سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار ، { وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض } أي : كعرض سبع سموات ، وسبع أرضين ، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى ، وذَكَر العرض دون الطول لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله ، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط ، وهذا تقريب لأفهام العرب ، وإلاَّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً ، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات ! { أُعِدَّتْ } تلك الجنة { للذين آمنوا بالله ورسله } وهو دليل أنها مخلوقة ، { ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء } وهم المؤمنون ، وفيه دليل أنه " لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " كما في الحديث : { والله ذو الفضل العظيم } وبذلك يؤتي من شاء ذلك الفضل ، الذي لا غاية وراءه . الإشارة : قد شبّه بعضُ الحكماء الدنيا بسبعة أشياء ، شبّهها بالماء المالح ، يغرق ولا يروي ، ويضر ولا ينفع ، وشبهها بظل الغمام ، يغر ويخذل ، وشببها بالبرق الخاطف في سرعة الذهاب والإضرار ، وبسحاب الصيف ، يضر ولا ينفع ، وبزهر الربيع ، يغر بزهرته ، ثم يصفر فتراه هَشيماً ، بأحلام النائم ، يرى السرورَ في منامه ، فإذا استيقظ لم يجد في يديه شيئاً إلاّ الحسرة ، وبالعسل المشوب بالسم الرعاف ، يغر ويقتل . هـ . قال حفيده : فتأملت هذه الحروف سبعين سنة ، ثم زِدتُ فيها حرفاً واحداً فشبهتها بالغول التي تهلك مَن أجابها ، وتترك مَن أعرض عنها . هـ . وفي كتاب قطب العارفين ، لسيدي عبد الرحمن اللجائي ، قال : فأول درجة الذاهبين إلى الله تعالى : بغض الدنيا ، التي هي ظلمة القلوب ، وحجاب لوائح الغيوب ، والحاجزة بين المحب والمحبوب ، فبقدر رفضها يستعد للسفر ، ويصح للقلوب النظر ، فإن كانت الدنيا من قلب العبد مرفوضة ، حتى لا تعدل عنده جناح بعوضة ، فقد وضع قدمه في أول درجة من درجات المريدين ، فينظر العبد بعد ذلك ما قدّمت دنياه ، ويقبل على أخراه . هـ . وذكر القشيري في إشارة الآية : أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر ، فقال بعد كلام : وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية ، والموافقات الطبيعية ، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية ، مثل الزهد ، والورع ، والتوكُّل والتقيُّيد بها ، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية ، والمنازلات الغيبية ، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات ، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات ، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته ، والبقاء بلاهوتيته الجامع . هـ . إلاّ أنه قدّم السر على الروح ، والمعهود العكس ، فانظره . قوله : { سابِقوا … } الآية ، فيه إغراء على النهوض إلى الله ، وسرعة السير إلى الحق تعالى ، التنافس في السبق ، كما قال الشاعر : @ السباقَ السباقَ قولاً وفعلاً حَذَّر النفسَ حسرةَ المسبوق @@ حُكي عن أبي خالد القيرواني ، وكان من العُبّاد ، المجتهدين : أنه رأى خيلاً يسابقَ بها ، فتقدمها فَرَسان ، ثم تقدم أحدهما الآخر ، ثم جدّ الثاني حتى سبق الأول ، فتخلّل أبو خالد ، حتى وصلَ إلى الفرس السابق ، فجعل يُقبّله ، ويقول : بارك الله فيك ، صبرت فظفرت ، ثم سقط مغشيّاً . هـ . قال الورتجبي : دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع ، يعني في قوله : { سارِعوا } ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق ، وقد دخل الكل في مظنة الخطاب لأنّ الكل قد وقعوا في بحار الذنوب ، حين لم يعرفوه حقّ معرفته ، فدعاهم إلى التطهير برحمته من الغرور بأنهم عرفوه . هـ . أي : دعاهم إلى التطهير من الاغترار بمعرفته ، وهي لم تحصل . والله تعالى أعلم . ثم سلَّى عباده عما يصيبهم ، ومن جملة ذلك : الاغترار بالدنيا ، فقال : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ } .