Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 22-24)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { في الأرض } : نعت لمصيبة ، أي : كائنة في الأرض ، وفي كتاب : حال . يقول الحق جلّ جلاله : { ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض } من الجدب وآفات الزروع والفواكه ، { ولا في أنفُسِكُم } من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد { إِلاَّ } مكتوب { في كتابٍ } اللوح { من قبل أن نبرأها } أي : مِن قبل أن تخلق الأنفس أو المصائب ، { إِنّ ذلك على الله يسير } أي : إن إثباتها في اللوح سهل على قدرته كلحظة ، وكما كُتبت المصائب ، كُتبت المسرات والمواهب ، وقد يدلّ عليها قوله تعالى : { لِكَيْلا تأسَوا } أي : أخبرناكم بذلك لِكيلا تحزنوا { على ما فاتكم } من الدنيا حزناً يقنطكم ، { ولا تفرحوا } فرح المختال الفخور { بما آتاكم } من الدنيا وسعتها ، ومن العافية وصحتها ، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الكل مقدر ، يفوت ما قدر فواته ، ويأتي ما قدّر إتيانه ، لا محالة ، لا يعظم جزعه على ما فات ، ولا فرحه بما هو آت ، ومع هذا كل ما ينزل بالنفس من المصائب زيادة في درجاته ، وتطهير من سيئاته ، ففي صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما يُصيب المسلم من وَصَبٍ ، ولا نَصَب ، ولا سقم ، ولا حَزَنٍ ، حتى الهمَّ يَهُمُّه ، إلاَّ كفّر به من سيئاته " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن : إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً ، وإن قضى له بالضراء ورضي كان خيراً له " ، وقال أيضاً : " ما من مسلم يُشاكُ بشوكةٍ فما فوقها ، إلاَّ كُتبتْ له درجةٌ ، ومُحيتْ عنه بها خَطيئةٌ " . وليس أحد إلاَّ وهو يفرح بمنفعةٍ تُصيبه ، ويحزن عند مضرةٍ تنزل به ، لأنه طبع بشري ، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أوتي بغنيمة أو خير يقول : اللهم إنا لا نستيطع إلاَّ أن نفرح بما آتيتنا ، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً ، والحزن صبراً ، وإنما يُذم مِن الحزن الجزع المنافي للصبر ، ومن الفرح الأشر المُطغي المُلهي عن الشكر ، والمؤدّي إلى الفخر ، { واللّهُ لا يُحب كلَّ مختال فخور } فإنَّ مَن فرح بحظوظ الدنيا ، وعظمت في نفسه ، اختال وافتخر بها ، لا محالة . وفي تخصيص التنزيل الذم بالفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى . ثم أبدل من " كل مختال " تفسيراً له فقال : { الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبخل } أي : لا يُحب الذين يفرحون الفرحَ المُطغي إذا رُزقوا مالاً أو حظّاً من الدنيا ، فلأجل فرحهم به عزّ في نفوسهم ، فبخلوا به ، وأَمروا غيرهم بإمساكه ، ويحضُّونهم على البخل والادخار ، { ومَن يتولَ } يُعرض عن الإنفاق ، أو عن أوامر الله تعالى ونواهيه ، ولم ينتهِ عما نهى عنه من الأسى على الفائت ، والفرح بالآتي ، { فإِنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ } أي : غني عنه وعن أنفاقه ، محمودٌ في ذاته ، لا يضره إعراضُ مَن أعرض عن شكره ، بالتقرُّب إليه بشيء من نعمه . وفيه تهديد وإشعار بأنَّ الأمر بالإنفاق إنما هلو لمصحلة المنفق فقط . وقرأ المدنيان وابن عامر بغير " هو " الذي يفيد الحصر ، اكتفاء عنها بتعريف الجُزأين ، مع تأكيد " إنّ " ، وقرأ الباقون بزيادتها للتنصيص على الحصر والتأكيد ، وهو ضمير فصل عن البصريين ، أي : الفرق لأنه يفرق بين الخبر والصفة ، وعماد عند الكوفيين ، ورابطة عند المنطقيين . الإشارة : ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية ، من غلبة الطبع ، والميل إلى الحظوظ النفسانية ، ولا في أنفسكم ولا في باطن أنفسكم ، مما يُصيب القلبَ من الأمراض ، كالعجب والرياء والكبر والحسد ، وغيرها ، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات ، أو الكرامات ، أو الكشوفات ، إلاَّ في كتاب سابق ، وهو العلم القديم ، والقضاء المحتوم ، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه ، ومَن انتكبته نكس على عقبيه ، أو وقف عن سيره ، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين ، عبودية وأدباً ، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم . فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء ، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول . قال القشيري : هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس ، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم ، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل ، ومَن لم يتغير بالمضار ، ولا يَسُرُّه الوجد ، كما لا يُحْزِنْه العَدَم ، فهو سَيِّد وقته . هـ . قلت : وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم : @ لا يَفرحونَ إذا نالت رِماحُهُمُ قَوْماً وليسوا مجازيعاً إذا نِيلوا @@ ثم قال : ويُقال : إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد ، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان . هـ . وقال الورتجبي عن الواسطي : العارف مستهلك في كُنه المعروف ، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى ، قال الله تعالى : { لِكَيلا تأسوا … } الآية . هـ . قلت : وإليه أشار في الحِكَم بقوله : " ما تجده القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان " ، وقال ابن الفارض ، في شان الخمرة إذا دخلت القلب : @ وإن خطرتْ يوماً على خاطر امرىءٍ أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ @@ أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام : " يا داود ، قُل للصدِّيقين : بي فليفرحوا ، وبذكري فليتنعموا " . واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب ، ولا ينقص بتركه ، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع ، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته ، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم للسائل : " ما لك ، لو لم تأتها لأتتك " ، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن ، ويزيد بالطلب وينقص بتركه ، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان : قسم مكتوب مطلقاً ، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد ، وهو الأرزاق والآجال ، وقسم معلّق بفعل العبد ، وهو الثواب والعقاب . هـ . قلت : في تفريقه نظر ، والحق : التفصيل في النظر ، فمَن نظر لعالم الحكمة ، وهو عالم التشريع ، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد ، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل ، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى ، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب ، وحصل مقام التقوى لقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً … } [ الطلاق : 2 ] الآية ، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللّهُ عنه في الفعل ، ومَن نظر لعالم القدرة ، وهو عالم الحقيقة ، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } وكذلك أمر الرزق المعنوي ، وهو الطاعة واليقين ، التي يتربت عليهما الثواب والعقاب ، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده ، وبها جاءت الشريعة ، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده ، فضلاً عن فعله وتسبُّبه ، فتأمّله . قوله تعالى : { والله لا يُحب كل مختال فخور } قال القشيري : لأنّ الاختيال من بقاء النفس ، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر . هـ . { الذين يبخلون } بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية ، والبخل بها علامة الفرح بها ، والوقوف معها ، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء لغناه بالله عن كل شيء ، ومَن يتولّ عن هذا كله ، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق ، المحمود قبل وجود الخلق . والله تعالى أعلم . ثم ذكر مِنَّةَ الواسطة إذ لا تُعرف هذه الأحكام إلاَّ من جهتها ، فقال : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } .