Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 25-27)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { لقد أرسلنا رسلنا } من البشر { بالبينات } الحُجج والمعجزات ، أو : لقد أرسلنا الملائكة إلى الإنبياء ، والأنبياء إلى الأمم ، ويؤيده قوله تعالى : { وأنزلنا معهم الكتابَ } أي : جنس الكتاب الشامل للكل لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة ، ويُجاب : بأن التقدير : وأنزلنا عليه الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه ، { و } أنزلنا { الميزانَ } أي : الشرع لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة ، { ليقوم الناسُ بالقسط } أي : العدل ، وقيل المراد : الميزان الحسي . رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان ، فدفعه إلى نوح عليه السلام ، وقال : " مُرْ قومَك يَزِنوا به " . { وأنزلنا الحديدَ } قال ابن عباس : " نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين ، خمسة أشياء : السندان ، والكَلْبتانِ ، والمِيقَعَةُ ، والمِطرقة ، والإبرة " . أو : { أنزلنا الحديد } أخرجناه من المعادن ، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض ، فينعقد في عروق المعادن ، وقيل : المراد به السلاح . وحاصل مضمن الآية : أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ ، فمَن تبع طوعاً نجا ، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً . { فيه بأس شديد } أي : قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب ، { ومنافعُ للناس } يستعملونه في أدواتهم ، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد ، { وليعلم اللّهُ } علم ظهور { مَن ينصُرُه ورسُلَه } باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين ، { بالغيبِ } غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب ، { إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ } فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته ، وينصر بعزته مَن ينصر دينه ، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب . قال النسفي : والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة : أنّ الكتاب قانون الشريعة ، ودستور الأحكام الدينية ، يُبين سبيل المراشد والعهود ، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود ، ويأمر بالعدل والإحسان ، وينهى عن البغي والطغيان ، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل ، ويحصل بها التساوي والتعادل ، وهي الميزان . ومن المعلوم : أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية ، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية ، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها بالسيف ، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد ، ونزع من صفقة الجماعة اليد ، وهو الحديد ، الذي وصف بالبأس الشديد . هـ . { ولقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم } خُصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام { وجعلنا في ذريتهما } أولادهما { النبوةَ } الوحي { والكتابَ } جنس الكتاب . وعن ابن عباس : " الخطّ بالقلم " . يقال : كتب كتاباً وكتابة . { فمنهم } من الذرية ، أو : مِن المرسَل إليهم ، المدلول عليه من الإرسال ، { مُهتدٍ } إلى الحق ، { وكثيرٌ منهم فاسقون } خارجون عن الطريق المستقيم ، والعدول عن سبيل المقابلة للمبالغة في الذم ، والإيذان بكثرة الضلاّل والفسّاق . { ثم قَفِّينا على آثارهم } أي : نوح وإبراهيم ، ومَن مضى من الأنبياء ، أو : مَن عاصروهم من الرسل ، { برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم } أي : أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم . والتقفية : من القفا ، كأنّ كل واحد جاء في قفا صاحبه من ورائه ، { وآتيناه } أي : عيسى { الإِنجيلَ } وفيه لغتان كسر الهمزة وفتحه ، وهو عجمي لا يلزم فيه أبنية العرب ، { وجعلنا في قلوب الذين ابتَعوه } وهم النصارى { رأفةً } مودةً وليناً ، { ورحمةً } تعطُّفاً على إخوانهم ، وهذا ظاهر في النصارى دون اليهود ، فأتباع عيسى أولاً كانوا الحواريين ، وطائفة من اليهود ، وكفرت به الطائفة الباقية ، فالنصارى أشياع الحواريين ، فما زالت الرحمة فيهم ، وأما اليهود فقلوبهم أقسى من الحجر . { ورهبانيةً ابتدعوها } من باب الاشتغال ، أي : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم . أو : معطوفة على ما قبلها ، أي : وجعلنا في قلوبهم رهبانيةً مبتدَعةً مِن عندهم ، أي : وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهابنية واستحداثها ، وهي : المبالغة في الرهبة بالعبادة ، والانقطاع عن الناس ، وهي منسوبة إلى الرَهْبان ، وهو الخائف ، فعلان من : رَهَبَ ، كخشيان ، من خشي . وقرئ بضم الراء ، نسبة إلى الرُّهْبان جمع راهب ، كراكب وركبان . وسبب ابتداعهم إياها : أنَّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام ، فقاتلوهم ثلاث مرات ، فقُتل المؤمنون حتى لم يبقَ منهم إلاَّ القليل ، فخافوا أن يفتونهم في دينهم ، فاختاروا الرهبانية في قُلَل الجبال ، فارين بدينهم ، مختلِّصين أنفسهم . انظر الثعلبي فقد نقله حديثاً . { ما كتبناها عليهم } أي : لم نفرضها عليهم ، ولكن نذروها على أنفسهم . ما فعلوا ذلك { إِلاَّ ابتغاءَ رِضْوانِ الله } عليهم ، قيل : الاستثناء منقطع ، أي : ما كتبناها عليهم لكن فعلوها ابتغاء رضوان الله ، وقيل : متصل من أعم الأحوال ، أي : ما كتبناها عليهم في حال من الأحوال إلاّ ابتغاء الرضوان ، { فما رَعَوْها حقَّ رعايتها } كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله ، لا يحلّ نكثه ، وقيل : في حق مَن أدرك البعثة فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أي : فما رَعَوا تلك الرهبانية حقها ، حيث لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده قوله تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم } إيماناً صحيحاً ، وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم { أجرَهم } ما يخصهم من الأجر ، { وكثيرٌ منهم فاسقون } خارجون عن حد الاتباع ، كافرون بالله ورسوله . الإشارة : كل زمان يبعث اللّهُ رُسلاً يدعون إلى الله ، وهم الأولياء العارفون ، خلفاء الرسل ، بالبينات الواضحة على ولايتهم ، لمَن سبقت له العناية ، وأنزلنا معهم الكتاب ، أي : الواردات الإلهية ، والميزان ، وهو إلهام اصطلاح التربية المناسبة لذلك الزمان ، فيزن بها أحوالَ المريدين ، ويعطي كل واحد ما يناسبه من الأوراد ، والأعمال ، والأحوال ، ليقوم الناس في أنفسهم بالقسط ، من غير إفراط ولا تفريط ، وأنزلنا الحديد ، إشارة إلى الجذب ، الذي في قلوب العارفين ، فيه بأس شديد ، يذهب العقول ، ومنافع للناس ، لأنه هو النور الذي يمشي به الوليّ في الناس ، إذ بذلك الجذب يجذب قلوبَ المريدين ، ومَن لم يكن له ذلك الجذب ، فلا يصلح للتربية لأنه ظاهري محض ، ولا بُد لهذا الجذب أن يصحبه سلوك في الظاهر ، وإلاَّ فلا يصلح أيضاً للتربية كالمصطلمين . خصّ هذا النور بأوليائه لِيعلم مَن ينصُر دينَه وسنةَ رسوله منهم ، بالغيب ، أي : مع غيب المشيئة عنهم ، فهم يجتهدون في نصر الدين ، وينظرون ما يفعل الله ، وما سبق به القدر ، وأمّا أمر الربوبية فهم في مقام العيان منها ، إنَّ الله قوي ، يُقوي قلوب المتوجهين ، عزيز يُعز من يجتهد في نصر الدين . ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم ، خصّ هذين الرسولين لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة ، وإبراهيم كان في غاية الليونة ، وهكذا أولياء كل زمان ، بعضهم يميل للقوة جدّاً ، وبعضهم يميل للرطوبة ، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أ مِلةً جعل فيها هذين الضدين ، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة ، ليعتدل الأمر في الوجود ، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود ، أو غرق ، كما جرى في زمان نوح عليه السلام ، حين انفرد بالقوة ، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين ، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة ، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً ، وهارون كان ليناً ، فكثرت أتباعه . وعظمت هذه المة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته ، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً ، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله ، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم فقابله عمر رضي الله عنه ، فلما استخلف عمر ولان قابله عليّ رضي الله عنه ، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين . سبحان المدبِّر الحكيم ، الجامع للأضداد . وقوله تعالى : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً } هي صفة المريدين المتوجهين ، ورهبانيةُ هذه الأمة : المساجد والزوايا ، كما في الحديث . وليس من شأن العارفين الانفراد في الجبال والفيافي ، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم . قال الورتجبي : وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة ، أهل السنة : أهل الرحمة والرأفة ، وأهل البدعة : أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم . وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله ، فتلك المودة من مودة الله إياهم ، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم ، حيث اختارهم في الأزل لأنهم خلفاء الأنبياء ، وقادة الأمة ، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم ، مثل ترك أكل اللحم ، والجلوس في الزوايا للأربعين ، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات ، لأجل قبول العامة ، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم ، بل هم يتبعون شياطينهم ، الذي غوتهم في دينهم ، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات ، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم . هـ . وقوله : " الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً ، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة ، والأمر كما قيل : إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل ، فهو أسلم . والله تعالى أعلم . ثم أمر أهلَ الكتاب بالدخول في الإسلام ، أو : أهل الإيمان بدوامه ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } .