Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 11-11)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذينَ آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس } [ المجادلة : 11 ] أي : توسَعوا فيه ، وقيل : " في المجلس " متعلق بقيل ، أي : إذا قيل لكم في المجلس تفسّحوا فافسحوا ، والمراد : مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يتضامُّون فيه تنافساً فيه صلى الله عليه وسلم وحرصاً على استماع كلامه . وقرأ عاصم " مجالس " أي : في مجالس الرسول التي تجلسونها . وقيل : المراد : مجالس القتال ، وهي مراكز الغزاة ، كقوله تعالى : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] قيل : كان الرجل يأتي الصف ، فيقول : تفَسَّحوا ، فيأبَوا ، لحرصهم . والأول أنسب بذكر النجوى أولاً وثانياً . فإن امتثلتم وتفسحتم { يَفْسَحِ اللهُ لكم } في كل ما تريدون التفسُّح فيه ، من الرزق ، والدار ، والصدر ، والقبر ، والجنة ، والعلم ، والمعرفة . { وإِذا قيل انشُزُوا } أي : ارتفعوا من مجلسه ، وانهضوا للصلاة ، أو الجهاد ، أو غيرهما من أعمال البر ، أو : انشزوا للتوسعة في المجلس على المقبِلين ، { فانشُزُوا } أي : فانهضوا ولا تُبطِئوا ، وقيل : كانوا يُطيلون الجلوس معه صلى الله عليه وسلم وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام ، فأُمروا بالقيام وعدم التثقيل . وفي مضارع " نشز " لغتان الضم والكسر ، والأمر تابع له . { يَرْفَعِ اللّهُ الذين آمنوا منكم } بامتثال أوامره وأَمْرِ رسوله ، بالنصر وحسن الذكر في الدنيا ، والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة . { و } يرفع { الذين أُوتوا العلمَ } خصوصاً { درجاتٍ } عالية ، بما جمعوا من أثريْ العلم والعمل ، فإنّ العلم مع علو رتبته يزيد مع العمل رفعةً لا يُدرك شأوها ، بخلاف العلم العاري عن العمل ، وإن كان له شرف في الجملة ، ولذلك يُقتدى بالعالِم في أفعاله فقط . وفي هذه الدرجات قولان ، أحدهما : في الدنيا ، في الرتبة والشرف والتعظيم ، والآخر : في الآخرة ، وهو أرجح . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : " يرفع العالم فوق المؤمن سبعمائة درجة ، بين كل درجة كما بين السماء والأرض " ، ومثل هذا لا يُقال بالرأي . وتقدير الآية : يرفع الله الذي آمنوا منكم درجةً ، والذين أُوتوا العلم درجات ، وقيل : " درجات " يرجع لهما معاً ، وتفضيل أهل العلم يؤخذ من خارج . وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، أنه كان إذا قرأها قال : " يا أيها الناس افهموا هذه الآية ، ولترغبكم في العلم " . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدرعلى سائر الكواكب " ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة " يعني الجاهل ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " يشفعُ يومَ القيامة ثلاثةٌ : الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " ، فأَعْظِم بمرتبةٍ هي واسطة بين النبوة والشهادة ، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويشمل الحديث العلماء بالله وبأحكام الله ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خُيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والمُلك ، فاخترا العلم ، فأعطى المالَ والمُلكَ معه . وقال صلى الله عليه وسلم : " أوحى اللّهُ إلى إبراهيم عليه السلام : يا إبراهيم إني عليم ، أُحب كل عليم " وعن بعض الحكماء : ليت شعري أيّ شيءٍ أدرك مَن فاته العلم ؟ وأيّ شيءٍ فات مَن أدرك العلم ؟ والعلوم أنواع ، وشرفها باعتبار المعلوم ، فأفضل العلوم : العلم بالذات العلية ، على نعت الكشف والعيان ، ثم العلم بالصفات والأسماء ، ثم العلم بالأحكام ، ثم العلم بالآلات الموصلة إليه . { واللهُ بما تعملون خبير } تهديد لمَن لم يمتثل الأمر . والله تعالى أعلم . الإشارة : ما قيل في مجلس العِلم يُقال في مجلس الوعظ ، بل هو عينه لأنه العلم النافع ، فإذا قَدِمَ واحدٌ من الفقراء أو غيرهم لمجلس الشيخ ، فوجد فُرجة جلس فيها ، وإلاّ جلس خلف الحلقة ، ولو مع النعال ، فلا يُزاحم ولا يُقم أحداً ليجلس ، إلاّ أن يأمره الشيخ بالتقدُّم لمنفعة فيه في إعانة الشيخ ، فليتقدّم برفق ولطافة وأدب . وإذا قيل لأهل المجلس : تفسَّحوا فليتفسَّحوا ، يفسح الله لهم في العلم والعرفان ، والأخلاق والوجدان ، والمقامات ، وسائر ما يطلب التوسُّع فيه . وإذا قيل : انشُزُوا لصلاة أو خدمة أو ملاقاة ، فانشُزُوا ، يرفع الله الذين آمنوا منكم ، وليس فيهم أهلية لصريح المعرفة درجةً عن العامة ، حيث صَحِبُوا العارفين للتبرُّك والحُرمة . ويرفع الذين أُتوا العلم بالذات ، على سبيل الكشف والعيان ، درجات ، سبعمائة درجة ، على العالم صاحب الدليل والبرهان ، فيرفع العالِم فوق الجاهل سبعمائة درجة ، ويرفع العارف فوق العالِم سبعمائة . فالناس أربع طبقات : الطبعة العيا الأولياء والعارفون بالله ، ثم العلماء ، ثم الصالحون ، ثم عامة المؤمنين . والمراد بالأولياء مَن منَّ اللّهُ عليه بملاقاة شيخ التربية ، حتى دخل مقام الفناء والبقاء ، زاح عنه حجاب الكائنات ، وأفضى إلى شهود المكوِّن ، فهؤلاء هم المقرَّبون الصدِّيقون ، والمراد بالعلماء العاملون المخلِصون . قال في " لطائف المنن " : وحيثما وقع العِلم في كتاب الله عزّ وجل ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما المراد به النافع ، المخمِد للهوى ، القامع للنفس ، الذي تكتنفه الخشية ، وتكون معه الإنابة ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] ، فلم يجعل عِلم مَن لم يخشَ من العلماء علماً ، فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله : الخشية ، وشاهد الخشية : موافقة الأمر ، وأمّا عِلم مَن يكوم معه الرغبة في الدنيا ، والتملُّق لأربابها ، وصرف الهمة لاكتسابها ، والجمع والإدخار ، والمباهاة والاستكثار ، وطول الأمل ونسيان الآخرة ، فما أبعد مَن هذا وصفه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام ، وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلاّ بالصفة التي كان بها عند الموروث ، ومثَلُ من هذه الأوصاف وصفُه كمَثَل الشمعة تُضيء على غيرها وهي تحرق نفسها ، جعل الله عِلمَ مَن هذا وصفه حجة عليه ، وسبباً في تكثير العقوبة لديه ، ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله يؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر " ، ومثَلُ مَن تعلّم العلم لاكتساب الدنيا ، وتحصيل الرفعة بها ، كمثل مَن رفع العذرة بملعقة من ياقوت ، فما أشرف الوسيلة ، وما أخس المتوسل إليه ! ومثَلُ مَن قطع الأوقات في طلب العلم ، فمكث أربعين سنة يتعلّم العلم ولا يعمل به ، كمثل مَن قعد هذه المدة يتطهّر ويُجدد الطهارة ، ولم يُصلِّ صلاةً واحدة ، إذ مقصود العلم العمل ، كما أنَّ المقصود بالطهارة وجود الصلاة ، ولقد سأل رجلٌ الحسنَ البصري عن مسألة ، فأفتاه فيها ، فقال الرجل للحسن : قد خالفك الفقهاءُ ، فزجره الحسن ، وقال : ويحك ، وهل رأيت فقيهاً ، إنما الفقيه مَن فقه عن الله أمْرَه ونهيه . وسمعتُ شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول : الفقيه مَن انفقأ الحجاب عن عينيْ قلبه ، فشاهد ملكوت ربه . انتهى كلامه . فالعلماء المخلِصون الذين عرفوا الله من طريق البرهان ، تلي درجتهم درجةَ الأولياء الذين هم أهل الشهود والعيان ، ثم الصالحون الأبرار ، ثم عامة المؤمنين ، ومَن قال خلاف هذا فهو جاهل بمرتبة الولاية ، قال صلى الله عليه وسلم : " عامة أهل الجنة البُله " وعِلِّيُون لذوي الألباب ، وذووا الألباب هم أهل البصائر ، الذين فتح الله بصيرتَهم ، وتطهّرت سريرتهم بالمجاهدة والرياضة ، حتى شاهدوا الحق وعرفوه ، وقال تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُو ٱلأَلْبَابِ } [ الزمر : 17 ، 18 ] ، وراجع ما تقدّم في تفسيرها ، وكل مَن كان محجوباً عن الله ، يتسدل بغيره عليه ، فهو من البُله ، إلاّ أنّ صاحب الاستدلال أربع من المقلِّد ، أي : سَلِمَ من الوسواس ، وإلاّ فالمقلِّد أحسن منه . ولمّا تكلم في الإحياء على درجات التوحيد ، قال : " والدرجة العليا في ذلك للأنبياء ، ثم للأوياء العارفين ، ثم للعلماء الراسخين ، ثم الصالحين " ، فقدَّم الأولياء على العلماء . وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته : فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه ، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه . هـ . سُئل ابن رشد - رحمه الله - عن قول الغزالي والقشيري بتفضيل الأولياء على العلماء ، فقال : أمّا تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله فقول الأستاذ أبي حامد متفق عليه ، ولا يشك عاقل أنّ العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال أفضل من العارفين بالأحكام ، بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع لأنّ العلم يشرف بشرف المعلوم . ثم أطال الكلام في الاستدلال على ذلك ، فانظر . ذكره في المعيار . وقال بعضهم في تفضيل العارف على العالِم : إنّ العارف فوق ما يقول ، والعالِم دون ما يقول ، يعني : أن العارف إذا تكلم في مقام من مقامات اليقين ، كان قَدَمُه فوق ما وصف ، لأنه يسلكه دوماً ثم يصفه ، والعالم إنما يصفه بالنعت ، وأيضاً : العالِم يدلك على العمل ، والعارف يُخرجك عن شهود العمل ، العالِم يحملك حِمل التكليف ، والعارف يروحك بشهود التعريف ، العالِم يَدُلك على علم الرسوم ، والعارف يُعرّفك بذات الحي القيوم ، العالِمَ يَدُلك على الأسباب ، والعارف يدلك على مُسبِّب الأسباب ، العالِم يَدُلك على شهود الوسائط ، والعارف يَدُلك على محرك الوسائط ، العالِم يُحذّرك من الوقوف مع الأغيار ، والعارف يُحذّرك من الوقوف مع الأنوار ، ويزج بك في حضرة الأسرار ، العالِم يُحذّرك من الشرك الجلي ، والعارف يُخلِّصك من الشرك الخفي ، إلى غير من الفروقات بين العارف والعالم . ومن اصطلاحات الصوفية ، أنَّ العالِم بالأحكام يسمى عالماً ، والعالِم بالذات عياناً وكشفاً يسمى عارفاً ، كما في القوت . وبالله التوفيق . ثم ذكر آداب مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ } .