Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 14-19)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِين تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم } وهم اليهود ، لقوله : { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] . والغضب في حقه تعالى : إرادة الانتقام . كان المنافقون يتولّون اليهود ، وينقلون إليهم أسرار المؤمنين ، ففضحهم الله . ثم قال تعالى : { ما هم منكم } يا معشر المسلمين { ولا منهم } أي : من اليهود ، بل كانوا { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } [ النساء : 143 ] . { ويحلفون على الكذب } أي : يقولون : والله إنّا لمسلمون لا منافقون ، { وهم يعلمون } أنهم كاذبون منافقون ، { أعدَّ اللهُ لهم عذاباً شديداً } نوعاً من العذاب متفاقماً ، { إِنهم ساء ما كانوا يعملون } فيما مضى من الزمان ، كانوا مُصرِّين على سوء العمل ، وتمرّنوا عليه ، أو : هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة . { اتخَذُوا أَيمانهم } الكاذبة { جُنَّةً } وقايةً دون أموالهم ودمائهم ، { فصَدُّوا } الناسَ في خلال أمنهم وسلامتهم ، أو : فصدُّوا بأنفسهم { عن سبيل الله } عن طاعته والإيمان به ، { فلهم عذابٌ مُهين } يُهينهم ويُخزيهم ، وأعدّ لهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم ، كقوله : { الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الَعَذَابِ } [ النحل : 88 ] . { لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادُهم من الله } من عذاب الله { شيئاً } قليلاً من الإغناء ، أي : ما يخافون عليه من الأموال والأولاد فيحلفون لأجله ، لا ينفعهم عند الله . رُوي أنَّ رجلاً منهم قال : لنُنصرنّ يوم القيامة بأموالنا وأنفسنا وأولادنا . فنزلت . { أولئك } الموصوفون بما ذكر من القبائح { أصحابُ النار } ملازموها { هم فيها خالدون } . { يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً فيحلِفون له } أي : لله تعالى في الآخرة أنهم كانوا مُخلِصين غير منافقين ، { كما يحلفون لكم } في الدنيا على ذلك ، { ويَحْسَبون أنهم } في الدنيا { على شيءٍ } من النفع ، أو : يحسبون في الآخرة أنهم على شيءٍ من النفع ، مِن جلب منفعة أو دفع مضرة ، كما كانوا في الدنيا ، حيث كانوا يدفعون بها عن أزواجهم وأموالهم ، { ألا إِنهم هم الكاذبون } البالغون في الكذب إلى غايةٍ لا مطمح وراءها ، حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علاّم الغيوب . { استحوذَ عليهم الشيطانُ } استولى عليهم ومَلَكَهم ، { فأنساهم ذكرَ الله } بحيث لم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم ، { أولئك حزبُ الشيطان } أي : جنوده وأتباعه ، { ألا إِنّ حزبَ الشيطان هم الخاسرون } أي : الموصوفون بالخسران الذي لا غياية وراءه ، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم ، وأخذوا بدله العذاب الأليم ، وفي تصدير الجمة بحرفي التنبيه والتحقيق ، وإظهار الشيطان معاً في موضع الإضمارِ ، وتوسيط ضمير الفصل ، من فنون التأكيد ما لا يخفى . الإشارة : منافقون الصوفية هم الذين يُقرُّون أهلَ الظاهر وينصرونهم ، ويُنكرون على أهل الباطن ، فإذا لقوهم أظهروا لهم المودّة والوفاق ، وادَّعوا أنهم منهم ، فهم مذبذبون بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، ليسوا من أهل الظاهر المحض ، ولا من أهل الباطن ، لعدم تحققهم به ، تجر الآية ذيلَها عليهم . والعذاب المعدّ لهم غم الحجاب ، وتخلُّفهم عن درجات المقربين . قوله تعالى : { اتخذوا أَيمانهم جُنة } قال القشيري : مَن استتر بحُجة طاعته لأجل دنياه انكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر ، ثم لا دينُه يبقى ، ولا دنياه تَسْلَم . قال تعالى : { لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادهم من الله شيئاً } الآية . هـ . يوم يبعثهم الله جميعاً فيتحاشون إلى المقربين ، ويحلفون بلسان حالهم : أنهم كانوا منهم ، كما يحلفون اليوم ، ويظنون أنهم من أهل الباطن ، ويحسبون أنهم على شيء ، فيبدوا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، وذلك لعدم صُحبتهم للعارفين المخلِصين ، حصل لهم الغلظ ، فوقفوا مع حُسبانهم الضال ، ولو دامت صُحبتُهم لأهل التوحيد الخاص لتنبّهوا لغلطهم . استحوذ عليهم الشيطانُ ، فزيّن لهم الوقوفَ مع ما هم فيه ، فأنساهم ذكرَ العيان ، فكانوا من حزب الشيطان في الجملة ، بالنسبة إلى مَن فوقهم . قال شاة الكرماني : علامة استحواذ الشيطان على العبد : أن يشغله بعمارة ظاهره ، من المأكل والملبس ، ويشغل قلبه عن التفكُّر في آلاء الله ونعمائه ، والقيام بشكرها ، ويشغل لسانه عن ذكر ربه ، بالكذب والغيبة والبهتان ، ويشغل قلبه عن التفكُّر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها . هـ . ثم ذكر مآل حزب الشيطان ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } .