Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 2-4)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ } وأصله : يتظهرون ، فأدمغت التاء في الظاء ، وقرأ عاصم : بضم الياء وتخفيف الظاء ، مضارع ظاهر لأنّ كل واحد يباعد صاحبه ، وقرأ ابن عامر والأخوان وأبو جعفر وخلف بفتح الياء وشد الظاء بالمد ، مضارع " تظاهر " ، والحاصل في فعل الظهار ثلاث لغات : ظاهر وتظاهر وتظهر ، مأخذة من الظهر لأنه يُشَبِّه امرأته بظهر أُمه ، ولا مفهوم للظهر ، بل كل جزء منها مثل الظهر . وفي قوله : { منكم } توبيخ للعرب ، لأنه كان من أيْمان الجاهلية خاصة ، دون سائر الأمم ، { مِن نسائهم } من زوجاتهم ، { ما هن أمهاتِهم } : خبر الموصول ، أي : ليسوا بأمهاتهم حقيقة ، فهو كذب محض ، { إِنْ أمهاتُهم } حقيقة { إِلاّ اللائي وَلَدنَهُمْ } مِن بطونهن ، فلا تشبّه بهن في الحرمة إلاّ مَن ألحقها الشرع بهن من المرضعات وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخلن بذلك في حكم الأمهات ، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة . { وزُوراً } كذباً باطلاً ، منحرفاً عن الحق ، { وإنّ الله لعفوٌّ غفور } لما سلف منهم . ثم ذَكَر الحُكم بعد بيان إنكاره ، فقال : { والذين يَظَهِرون مِن نسائهم ثم يعودون لِما قالوا } أي : والذين يقولون ذلك القول المُنكَر ، ثم يعودون إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي ورفع التضرُّر ، أو : لِنقيض ما قالوا : قال ابن جزي : في معنى العود ستة أقوال : الأول : إيقاع الظِّهار في الإسلام ، فالمعنى أنهم كانوا يُظاهرون في الجاهلية ، فإذا فعلوه في الإسلام فذلك عود إليه ، هذا قول ابن قتيبة ، فتجب الكفارة عنده بنفس الظَّهار ، بخلاف أقوال غيره ، فإنَّ الكفارة لا تجب إلاّ بالظهار والعود معاً . القول الثاني : إنّ العود هو وطء الزوجة ، رُوي ذلك عن مالك ، فلا تجب الكفارة على هذا حتى يطأ ، فإذا وطئها وجبت عليه الكفارة ، أمسك الزوجةَ أو طلّقها ، أو ماتت . الثالث : إنَّ العَوْد هو العزم على الوطء ، ورُوي هذا أيضاً عن مالك ، فإذا عزم على الوطء وجبت الكفارة ، أمسك ، أو طلَّق ، أو ماتت . الرابع : إن العود هو العزم على الوطء والإمساك ، وهذا أصح الروايات عن مالك . الخامس : إنه العزم على الإمساك خاصة ، وهذا مذهب الشافعي ، فإذا ظاهر ولم يُطَلَّقها بعد الظَّهار لزمته الكفارة . السادس : إنه تكرار الظهار مرة أخرى ، وهذا مذهب الظاهرية ، وهو ضعيف ، لأنهم لا يرون الظَّهار موجباً حكماً في أول مرة ، وإنما يُوجبه في الثانية ، وإنما نزلت فيما ظاهر أول مرة ، فذلك يرد عليهم ، ويختلف معنى " لِما قالوه " باختلاف هذه الأقوال ، فالمعنى : يعودون للوطء الذي حرَّموه ، أو للعزم عليه ، أو للإمساك الذي تركوه ، أو للعزم عليه . هـ . { فتحريرُ رقبةٍ } أي : فتداركه ، أو فعليه ، أو فالواجب تحرير رقبة . واشترط مالك والشافعي أن تكون مؤمنة ، حملاً للمُطْلَق على المقيد لأنه قيّدها في القتل بالإيمان ، والفاء للسببية ، ومِن فوائدها : الدلالة على تكرُّر وجوب التحرير بتكرُّر الظهار . { مِن قبل أن يتماسا } أي : المظاهِر والمظاهَر منها ، ومذهب مالك والجمهور : أن المسّ هنا يُراد به الوطء ، وما دونه من اللمس والقُبلة ، فلا يجوز للمظاهِر أن يفعل شيئاً من ذلك حتى يُكفِّر ، فإن فعل شيئاً من ذلك تاب ولا يعود . وقال الحسن والثوري : أراد الوطء خاصة ، فأباحا ما دونه من قبل الكفارة . { ذالكم } الحُكم { تُوعظون به } لأنَّ الحُكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحُكم حتى لا تعودوا إلى الظهار ، وتخافوا عقابَ الله عليه ، { واللهُ بما تعملون خبيرٌ } مُطَّلِع على ما ظهر مِن أعمالكم ، التي مِن جملتها الظاهر . { فمن لم يجد } الرقبة { فصيامُ شهرين } أي : فعليه صيام شهرين { مُتتابعين مِن قبل أن يتماسا } فإنْ أفسده باختياره من أوله باتفاق ، وإن أفسده بعذر ، كمرض أو نسيان ، فقال مالك : يبني على ما كان معه ، في رواية عنه ، وقال أبو حنيفة : يبتدئ ، ورُوي القولان عن الشافعي . { فمَن لا يستطعْ } الصيام { فإِطعام ستين مسكيناً } بمُدّ هشام على مذهب مالك . واختلف في قدره ، فقيل : إنه مدان غير ثلث بمُد النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : إنه مُد وثلث ، وقيل : إنه مُدان ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي وابن القصار : يُطعم مُدّاً بمُد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين ، ولا يجزئه إلاّ كمالُ الستين ، فإنْ أطعم مسكيناً واحداً ستين يوماً لم يجزه عند مالك والشافعي ، خلافاً لأبي حنيفة ، وكذلك إن أطعم ثلاثين مرتين ، والطعام يكون من غالب قوت البلد . وذكر الحق جلّ جلاله : { من قبل أن يتماسا } في العتق والصوم ، ولم يذكره في الإطعام ، فاختلف العلماءُ في ذلك ، فَحَمل مالك الإطعامَ على ما قبله ، ورأى أنه لا يكون إلاّ قبل المسيس ، وجعل ذلك مِن المُطْلَق الذي يُحمل على المقَيد . وقال ابو حنيفة : يجوز للمظاهِر إذا كان من أهل الإطعام أن يطأ قبل الكفارة لأن الله لم ينص في الإطعام أنه قبل المسيس ، وقال الشافعي : يجب تقديمه على المسيس ، لكن لا يستانف إن مسّ في حال الإطعام . وجعل الأطعام . وجعل الحق جلّ جلاله كفارة الظهار مُرتّبة ، فلا ينتقل عن الأول حتى يعجز عنه ، ومثلها كفارة القتل والتمتُّع ، وقد نظم بعضهم أنواع الكفارات ، ما فيه الترتيب وما فيه التخيير ، فقال : @ خيِّرْ بصوم ثم صيد وأذى وقل لكل خصلةٍ يا حبذا ورتّب الظهار والتمتعا والقتل ثم في اليمين اجتمعا @@ { ذلك لتؤمنوا } الإشارة إلى ما مرّ من البيان والتعليم للأحكام ، ومحله رفع أو نصب ، أي : ذلك واقع ، أو فصّلنا ذلك لتؤمنوا { بالله ورسولِه } وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم ، وترفُضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم ، { وتلك } أي : الأحكام التي وصفنا في الظِهار والكفارة ، { حدودُ الله } التي لا يجوز تعدّيها ، { وللكافرين } أي : الذين لا يعملون بها { عذابٌ أليم } عبّر عنه بالكفر تغليظاً على طريق : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 97 ] . الإشارة : الذين يباعدون من أنفسهم ، فيُحرِّمون عليها التمتُّع بما أحلّ الله من الطيبات ، تضييقاً وتشديداً عليها ، مفْرطين في ذلك ، محتجين لذلك بأنهم كانوا في بطن الشهوات ، فقد ملكتهم ملك الأم لولدها ، قال تعالى : { ما هن أمهاتِهم إنْ أُمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم ، وإنهم ليقولون مُنكراً من القول وزوراً } حيث حرّموا ما أحلّ الله ، والمراد بذلك الإفراط المؤدي إلى التلف . قال القشيري : لأنّ النفس مطية الروح ، فلا تسلك طريق السير إلاّ بها ، وهي مددها ومعونتها ، كما قال عليه السلام : " إنّ لنفسك عليك حقاً " فلا بد للروح من مسامحة النفس ومداراتها في بضع الأوقات ، لتميل النفس إلى تصرفها وحكمها فيها ، وإلاّ ضعفت وكَلَّت عن موافقتها ، فتنقطع الروح عن السلوك إلى الله . هـ . قلت : وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يكن أحدكم كالمنبت ، لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى " { وإن الله لعفو غفور } لمَن وقع له شيء من هذا ورجع . والذين يُظاهرون من نسائهم ، يُباعدون من أنفسهم ، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها ، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة ، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة ، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر ، لا بنية مجرد الاستمتاع ، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس ، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها ، شيئاً قط ، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط ، فعليه صيام شهرين أو أكثر ، مجاهدةً ورياضةً ، حتى تقف على حد الضرورة ، فإن لم يتسطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر ، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ . وقال القشيري : وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابعين ، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار ، من غير تخلُّل التفات ، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات ، لبقية من بقايا أنانيته ، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية ، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها ، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية ، والتحقق بالصفات الروحانية ، هـ . ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل ، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع ، وللكافرين لهذه الحِكم عذاب البُعد ونار القطيعة ، المؤلم للروح والقلب ، بغم الحجاب وسوء الحساب . ثم ذكر وبال مَن خالف أمره ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } .