Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 5-7)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ الذين يُحادون اللّهَ ورسولَه } أي : يُعادونهما ويُشاقونهما فإنَّ كُلاَّ من المتعادين في عدوةٍ وشِقٍّ غير الآخر ، وكذلك يكون كُلُّ واحدٍ منهما في حدّ غير حدّ الآخر ، غير أنَّ لذكر المُحادَّة هنا لمّا ذكر حدود الله مِن حسن الموقع ما لا غاية وراءه . ثم أخبر عنهم فقال : { كُبِتُوا } أي : أُخذوا وأُهلكوا ، أو : لُعنوا { كما كُبِتَ الذين من قبلهم } من كُفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم السلام . وقال القشيري : يُحادّون : يُخالفون أمر الله ، ويتركون طاعة رسول الله ، أذِلُّوا وأُخْزوا كما أُذِلَّ مَنْ قبلهم من الكفار والعصاة . نزلت في المستهزئين يوم ا لخندق ، إذ الله أجرى سُنته بالانتقام من أهل الإجرام ، ومَن ضيَّعَ لرسول الله سُنةً واحدة في دينه ببدعة انخرط في سلك هذا الخزي ، ووقع في هذا الذُّل . هـ . وقال ابن عطية : الآية نزلت في المنافقين واليهود ، وكانوا يتربصون بالرسول والمؤمنين الدوائر ، ويتمنون فيهم المكروه ، ويتناجون بذلك . هـ . { وقد أنزلنا آياتٍ بيناتٍ } : حال من ضمير " كُبتوا " أي : كُبتوا بمحادتهم ، والحال أنَّا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسولَه ، ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم ، أو : آيات على صدق الرسول وصحة ما جاء به ، { وللكافرين } بهذه الآيات ، أو : بكل ما يجب الإيمان به ، فيدخل فيه تلك الآيات دخولاً أوليّاً ، { عذابٌ مهين } يذهب بعزِّهم وكِبْرهم . واذكر { يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً } أو : لهم ذلك العذاب { يومَ يبعثهم اللهُ جميعاً } أي : لا يترك أحداً منهم ، أو مجتمعين في حال واحد وصعيدٍ واحد ، { فيُنَبئهم بما عمِلوا } من القبائح ، تخجيلاً لهم ، وتشهيراً لحالهم ، وتشديداً لعذابهم ، فيتمنون حينئذ المسارعة إلى النار ، لِما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد ، { أحصاه اللهُ } أحاط به عدداً ، لم يفته منه شيء ، والجملة استئناف بياني ، كأنه قيل : كيف ينبئهم بما عملوا ، وهي أعراض مُنقضية متلاشية ، فقيل : { أحصاه اللهُ ونَسًوه } أي : قد نسوه لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظّمات الأمور . وهو حال أيضاً . { واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ } لا يغيب عنه شيء . والجملة اعتراض تذييلي ، مقرِّرة لإحصائه تعالى . ثم استشهد على شمول شهادته تعالى ، فقال : { ألم تَرَ أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } فهو كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ } [ البقرة : 258 ] ، { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } [ الشعراء : 225 ] أي : ألم تعلم علماً مزاحماً للمشاهدة أنَّ الله يعلم ما استقر في السماوات وما في الأرض من الموجودات ، { ما يكونُ من نجْوَى ثلاثةٍ } : استئناف مُقَرِّر لِما قبله مِن سعة علمه تعالى ، ومُبَيّن لكيفيته ، و " كان " تامة ، أي : ما يقع من تناجي ثلاثة نفر في مساررتهم { إِلاَّ هو } أي : الله تعالى { رابعُهم } أي : جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يُشاركهم في الاطلاع عليها ، { ولا خمسةٍ } أي : ولا نجوى خمسة { إِلاّ هو سادسُهم ولا أدنَى } ولا أقل { من ذلك ولا أكثرَ إِلاّ هو معهم } يعلم ما يتناجون به ، فلا يخفى عليهم ما هم فيه . وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة ، فإنّ الآية نزلت في المنافقين ، وكانوا يتناجون مغايظةً للمؤمنين على هذين العددين ، وقيل : المعنى : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عددهم ولا أكثر ، إلا والله معهم ، يسمع ما يقولون ، ولأنّ أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب ، وأول عَدَدهم الاثنان فصاعداً ، إلى خمسة ، إلى ستة ، إلى ما اقتضته الحال ، فذكر عزَ وجل الثلاثة والخمسة ، وقال : { ولا أدنى من ذلك } فدلّ على الاثنين والأربعة ، وقال : { ولا أكثرَ } فدلّ على ما فوق هذا العدد . قاله النسفي . { ثم يُنبِّئُهم } يُخبرهم { بما عَمِلوا } تفضيحاً وإظهاراً لِما يوجب عذابهم . { إِنّ الله بكل شيء عليم } لأنَّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء ، فلا يخلو منه زمان ولا مكان . الإشارة : في الحديث : " مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب " فمَن حادّ أولياءَ الله فقد حادّ الله ورسولَه ، فيُكبت كما كُبِتَ مَن قبله ممن اشتغل بإذايتهم ، وقد أنزلنا آيات واضحات على ثبوت الولاية في كل زمان ، قال تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] ، وللكافرين الجاحدين لخصوصيتهم عذاب مهين ، وهو البُعد والطرد وغم الحجاب وسوء الحساب . يوم يبعثهم الله جميعاً ، أي : أهل الإنكار ، فيُنبئهم بما عملوا من الانتقاد والإذاية ، أحصاه اللّهُ ونسوه ، لأنهم يعتقدون أنهم في ذلك على صواب لجهلهم المُرَكَّب ، فإذا تناجوا في شأنهم بما يسؤوهم فيقال في حقهم : { ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعهم … } الآية . قال القشيري : { إنّ الذين يُحادون الله ورسولَه } ، يعني : يُحادون مظاهر الله ، وهم الأولياء المحققون ، العارفون القائمون بأسرار الحقائق ، ومظاهر رسول الله ، وهم العلماء العاملون ، القائمون بأحكام الشرائع ، كُبتوا : أُفحموا بالحُجج وإظهار البراهين من الكرامات الظاهرة ، وخرق العادات الباهرة ، أو نشر العلوم الشريعة ، ونشر الأحكام الفرعية ، وقد أنزلنا بصحة ولايتهم ، وقوة وراثتهم ، علامات ظاهرة ، ودلالات زاهرة ، من المشاهدات والمعاينات ، أو الحجج القاطعة والبراهين الساطعة ، ومن ستر أنوار ولايتهم ، وآثارَ وراثتهم ، بساتر إنكاره ، فله عذاب القطيعة والفضيحة مع إهانة من غير إبانة هـ . ببعض البيان . قال الورتجبي : قوله تعالى : { إلا هو معهم } المعية بالعلم عموم ، وبالقرب خصوص ، والقرب بالعلم عموم ، وبظهور التجلِّي خصوص ، وذلك دنو { دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } ، فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات ، واتصل أنوارُ كشوف الذات والصفات بالعارف ، فذلك حقيقة المعية ، إذ هو سبحانه مُنزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث . ولو ترى أهل النجوى ، الذين مجالستهم لله وفي الله ، لترَى من وجوههم أنوار المعية ، أين أنت من العلم الظاهر ، الذي يدل على الرسوم . ألم تعلم أنَّ علمه تعالى أزلي ، وبالعلم يتجلّى للمعلومات ، فالصفات شاملة على الأفعال ، ظاهرة من مشاهد الملعومات ، فإذا كان الذرات لا تخلو من قرب الصفات ، كيف تخلو عن قرب الذات الأرواحُ العالية المقدّسة العاشقة المستغرقة في بحر وُجوده ، لا تظن في حقي أني جاهل بأنّ القديم لا يكون محل للحوادث ، فإنه حديث المُحدَثين ، أعبرْ من هذا البحر حتى لا تجد الحدثان ولا الإنسان في مشاهدة الرحمان هـ . قلت : وحاصل كلامه : أنَّ المعيّة بالعلم تستلزم المعية بالذات ، إذا الصفة لا تفارق الموصوف ، وإنَّ بحر الذات اللطيف محيط بالكثيف منه من غير انفصال ، وأما كون القديم لا يكون محل الحوادث فصحيح ، لكن الحوادث عندنا فانية متلاشية ، إذ ما ثَمَّ إلا تلوينات الخمرة الأزلية ، وقد قال الجنيد : " إذا قرن الحادث بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم " ، فاعبُرْ عن عالَم الحس إلى بحر المعاني ، حتى لا تجد إلاَّ القديم الأزلي ، فافهم وسلِّم . @ إن لم ترَ الهلالَ فسَلِّم لأناس رأوه بالأبصار @@ ولمّا ذَكَرَ المؤمنين الواقفين عند حدوده ، ذكر الحادّين المخالفين لها ، فقال { ألم تر … } الخ . وأحسن منه : أنه لمّا هددهم في النجوى بقوله : { فينبئهم بما عَمِلوا } وبكونه مُطّلعاً عليهم ، عقبه بقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ } .