Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 11-14)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ألم تَرَ إلى الذين نافقوا } أي : ألم ترَ يا محمد ، أو : يا مَن يسمع ، إلى عبد الله بن أُبيّ وأشياعه ؟ حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين ، من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة ، بعد حكاية محاسن أقوال المؤمنين ، وأحوالهم الحميدة ، على اختلاف طبقاتهم . وقوله تعالى : { يقولون } استئناف لبيان المتعجب منه ، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم ، أو : لاستحضار صورته . واللام في قوله : { لإِخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } للتبليغ ، والمراد بالأخوة : أخوة الكفر ، واللام في قوله : { لئن أُخرجتم } موطئة للقسم ، و { لنَخْرُجَنَّ } جوابه ، أي : والله لئن أُخرجتم من دياركم { لنَخْرُجَنَّ معكم } ، رُوي أن ابن أُبي وأصحابه دسُّوا إلى بني النضير ، حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم : لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ، لا نخذلكم ، ولئن أُخرجتم لنخرُجن معكم ، { ولا نُطيعُ فيكم } في قتالكم { أحداً أبداً } ، يعني رسول الله والمسلمين ، أو : لا نُطيع في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة أحداً ، وإن طال الزمان ، { وإن قُوتلتم لننصرنكم } ، قال تعالى في تكذيبهم : { واللهُ يشهد إنهم لكاذبون } في مواعدهم المؤكدة بأيمانهم الفاجرة . { لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قُوتلوا لا ينصرونهم } ، وكان الأمر كذلك ، فلم يقدر أحد أن يرفع رأسه لنصرتهم ، ففيه معجزة واضحة ، { ولئن نصروهم } على الفرض والتقدير ، { ليُوَلُّنَّ الأدبارَ } فراراً { ثم لا يُنصرون } أبداً ، إما المنافقون أو اليهود ، أي : لا تكون لهم شوكة أبداً . وإنما قال : { ولئن نصروهم } بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم ، أي : على الفرض والتقدير كقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، والحق تعالى كما يعلم ما يكون ، يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف يكون . { لأنتم أشدُّ رهبةً } أي : أشد مرهوبية ، مصدر : رُهِبَ ، المبني للمفعول ، أي : أنتم أشد خوفاً { في صُدورهم من الله } دلالة على نفاقهم ، يعني : إنهم يُظهرون لكم في العلانية خوفَ الله ، وأنتم أهيب في صدورهم من الله ، { ذلك } أي : ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشد من رهبة الله { بأنهم قوم لا يفقهون } شيئاً حتى يعلموا عظمة الله تعالى ، فيخشوه حق خشيته . { لا يُقاتلونكم } أي : اليهود والمنافقون ، أي : لا يقدرون على قتالكم { جميعاً } مجتمعين متفقين في موطن من المواطن ، { إلاّ في قُرىً محصنةٍ } ، بالدُّروب والخنادق ، { أو مِن وراء جُدُر } دون أن يصحروا ويبارزوكم لفرط رهبتهم . وقرأ المكي : " جدار " بالإفراد . { بأسُهم بينهم شديدٌ } ، بيان لِما ذكر من أنَّ رهبتهم ليس لضعفهم وجُبنهم في أنفسهم ، فإنّ بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد ، وإنما ضعفُهم وجبنهُم بالنسبة إليكم ، بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب . { تَحْسَبُهم } أي : المنافقين واليهود { جميعاً } أي : مجتمعين ذوي أُلفة واتحاد ، { وقلوبُهم شَتَّى } متفرقة لا أُلفة بينها . قال ابن عطية : وهذه حالة الجماعة المتخاذلة . هـ . يعني : أنّ بينهم إحناً وعداوات ، فلا يتعاضدون حقَّ التناصر ولا ينصرون أبداً . قال القشيري : اجتماع النفوس مع تنافر القلوب أصلِ كل فساد ، وموجب كل تخاذل ، واتفاق القلوب ، والاشتراك في الهمّة ، والتساوي في القصد ، يُوجب كلٍّ ظفرٍ وسعادة . هـ . وما وصف به الحق تعالى المنافقين واليهود كله تجسير للمؤمنين ، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم . { ذلك } التفرُّق { بأنهم قوم لا يعقلون } شيئاً ، حتى يعرفوا الحق ويتبعوه ، وتطئمن به قلوبهم ، وتتحد كلمتهم ، ويَرمُوا عن قوس واحدة ، لكن لّمَّا جهلوا الحق تشتتت طُرُقهم ، وتشتتت القلوب حسب تشتُّت الطُرق ، وأما ما قيل من أنّ المعنى : لا يعقلون أنّ تشتيت القلوب مما يُوهن قلوبهم ، فبعيد . الإشارة : إذا حاصر المريدُ قريةَ القلب ليُخرج منها الأوصاف المذمومة لتتهيأ لسكنى سلطان المعرفة ، تقول الحظوظ والأهوية المنافقة للنفس ، وأوصافها اليهودية : لا تخرجوا ، فنحن نُعاونكم ، وفي نصرتكم ، لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم ، ولا نُطيع فيكم أحداً أبداً ، وإن قوتلتم بالمجاهدة والرياضة لننصرنكم بالتخاذل والتثُّبط ، والله يشهد أنهم لكاذبون إذ لا قدرة لشيء إلاّ بإذن الله . { لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم … } الآية . لا يقاتلونكم جميعاً ، أي : لا يجتمع جند الهوى النفس على قتالكم ، إلاّ في قلوب غافلة شديدة العلائق والمساوىء محصنة من دخول النور بأسوار الشواغل والعلائق أو : تُوَسْوِس من وراء جُدُر الإيمان وأما القلوب الفارغة من الشواغل المطهرة من المساوئ ، فإنما يقاتلها البعض الباقي فيها . بأسهم بينهم شديد ، أي : الحرب بينهم سجال ، إذا غلب جند النفس استولت ظلماتها على الروح ، وإذا غلب جند القلب والروح استولى النورُ على ظلمة النفس ، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ، أي : تظنون أنَّ مهاوي الهوى ومهاوي النفس واحدة وقلوبهم شتى فالأهواء مختلفة ، والحظوظ متفاوتة ، والمساوىء متفرقة ، فلكل شخص حظ ، ولكل نفس هوى غير ما يشتهي الآخر ، وذلك بأنهم قوم لا يعقلون ، ولو عقلوا لاتفقت أهواؤهم في محبة الله ورسوله ، قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تابعاً لما جئتُ به " . ثم شبَّه بني النضير بقتلى أهل بدر ، فقال : { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً } .