Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 8-10)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : " للفقراء " يتعلق بمحذوف ، أي : يعطي ، أو : اعْجَبوا ، على أنه استئناف ، وقيل : بدل من " ذي القربى " . و " وتبوؤوا الدارَ والإيمان " أي : وأَلِفوا الإيمان ، ولا يصح العطف لئلا يلزم أنّ الإيمان متبوأ ، وإنما يُتبوأ المنزل إذ التبوء : التهيؤ ، يقال : بوأت له منزلاً ، أي : هيأته له ، وفي إعراب الحوفي في سورة آل عمران : يقال تبوأ فلان الدار إذا لزمها . هـ . فعلى هذا يصح العطف ، ولا يحتاج إلى تقدير عاملٍ آخر . قال ابن هشام : ولا يجوز كون الإيمان مفعولاً معه لعدم الفائدة في تقييد الأنصار المعطوفين على المهاجرين بمصاحبة الإيمان إذ هو أمر معلوم . هـ . وانظر ابن جزي ، فإنه هو الوجه المستحسن عنده في توجيه الآية ، والمعنى : أنهم جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان ، لا بنزول الدار ، قال : فيكون الإيمان على هذا مفعولاً معه ، وأصله لابن عطية ، وبهذا الاقتراح يصح معنى قوله : { مِن قبلهم } فتأمله . انظر الحاشية . يقول الحق جلّ جلاله : { للفقراءِ } أي : يعطى الفيء للفقراء { المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالِهم } حيث اضطرهم كفارُ مكة إلى الخروج من مكة ، وكانوا مائة رجل . وفيه دليل على أنّ الكفار يملكون ما استولوا عليه من أموال المسلمين لأنّ الله تعالى سمّاهم فقراء ، مع أنهم كانت لهم ديار وأموال بمكة ، فخرجوا { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } أي : طالبين منه تعالى رزقاً في الدنيا ، ورضا في الآخرة ، أو : يطلبون الجنة ورضوان الله أو : زيادة في الإيمان والرضوان ، { وينصرون اللهَ ورسولَه } أي : ناوين نصرة دين الله وإعانة رسوله ، { أولئك } الموصوفون بما فصّل من الصفات الحميدة { هُم الصادقون } الراسخون في الصدق ، حيث ظهر ذلك عليهم بما فعلوا من مفارقة الأوطان والأهل والولدان . { والذين تبوؤوا الدارَ والإِيمانَ } ، هذا استئناف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة ، من جملتها : محبتهم للمهاجرين ، ورضاهم باختصاصهم بالفيء أكمل رضا ، أي : اتخذوا المدينة والإيمان مباءة وسكناً وتمكّنوا فيهما أشد تمكين ، { مِن قبلهم } أي : من قبل هجرة المهاجرين أو تبوؤوا الدار ولزموا الإيمان ، ولزومه : إخلاصه وظهور شعائره وأحكامه ، ولا ريب في تقدُّم الأنصار في ذلك على المهاجرين لأنّ المهاجرين لم يتأتَّ لهم أظهاره قبل الهجرة ، فتقدمهم في إظهاره فقط ، لا في إخلاصه إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك . { يُحبون مَنْ هاجر إليهم } حتى شاطروهم أموالهم ، وأنزلوهم منازلهم ، ونزل مَن كانت له امرأتان عن إحداهما ليتزوجها المهاجري ، ومحبتهم للمهاجرين من حيث هجرتهم لنصرة الدين لشدة محبتهم للإيمان ، { ولا يجدون في صُدورهم } في نفوسهم { حاجةً } أي : شيئاً محتاجاً إليه ، يقال : خذ منه حاجتك ، أي : ما تحتاج إليه ، يعني : أنّ نفوسهم لم تتبع ما أوتوا من الفيء ، ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه ، وقيل : حاجة : حسداً أو كزازة ، مما أُعطي المهاجرون من الفيء ، حيث خصّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم به . { ويُؤثرون على أنفسهم } أي : يُقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من أسباب المعاش ، { ولو كان بهم خصاصةٌ } أي : حاجة وخلّة ، وأصلها : خُصاص البيت ، أي : فروجه . والجملة : حال ، أي : يُؤثرون في حال خصاصتهم . قال ابن عباس : لما ظفر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير ، قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ، ونؤثرهم بالغنيمة ، ولا نُشاركهم فيها ، فنزلت . وهذا صريح في أنَّ قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار } استئناف غير معطوف على الفقراء المهاجرين ، نعم يجوز عطفه عليهم باعتبار شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق ، دون الفيء ، فيكون قوله تعالى : { يُحبون } وما عطف عليه استئنافاً مقرراً لصدقهم ، أو حال . قاله أبو السعود . قلت : إذا جعلنا قولَه تعالى : { ما أفاء اللهُ على رسوله مِن أهل القُرى } استئنافاً غير مُبيّنِ لِما قبله ، بل في كل فيء يأتي بعد بني النضير ، صحّ عطف الأنصار على فقراء المهاجرين في كل شيء ، وكذا قوله : { والذين جاؤوا مِن بعدهم } عطف عليهم ، فيكون المعنى : يقسم الفيء للفقراء المهاجرين ، وللذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ، وللذين جاؤوا مِن بعدهم . ويؤيد هذا ما رُوي أنّ عمر رضي الله عنه لمّا قرأ هذه الآية إلى آخرها قال : هذه الآية استوعبت المسلمين ، ما على وجه الأرض مسلم إلاَّ وله في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيْمَانهم . هـ . وقيل : نزلت في " ضيفٍ نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يجد عنده شيئاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " مَن يُضيف هذا ؟ " فقال : رجلٌ من الأنصار - قيل : أبو طلحة ، أنا يا رسول الله ، فلم يجد من الطعام إلاّ ما يكفي الصبية ، فقال لامرأته : نوّمي الصبيان ، وأطِفئي السراج ، وقرّبي الطعام ، فنظهر للضيف أنَّا نأكل معه ، ونمضغ ألسنتنا ليأكل ، فأكل الضيف وحده ، فلما أصبح قال صلى الله عليه وسلم للرجل : " إنَّ الله ضحك مِن فعلكما " عن أنس : أُهدي لبعضهم رأس مشويّ ، وهو مجهود ، فَوَجَّهه إلى جارِه ، وجارُه وَجَّهَه إلى جارِه ، فتداولته تسعةُ أنْفُس ، حتى عاد إلى الأول . { ومَن يُوق شُحَّ نفسه } أي : مَن يقيه الله شحَّ نفسه حتى يغالبها فيما يغلب عليها ، مِن حب المال وبُغضَ الإنفاق ، { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بكل مطلوب ، والناجون من كل مرهوب . والشح - بالضم والكسر - : اللُّؤم ، وأن تكون نفس الرجل كزّةً حريصة على المنع . وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها ، وأما البخل فهم المنع نفسه ، وقيل : الشُح : أكل مال أخيك ظلماً ، والبخل : منع مالك ، وقيل : الشُح : منع ما عندك والطمع في غيرك ، والبُخل : منع مالك من غير طمع ، فالشُح أقبح من البخل . والجملة : اعتراض وارد لمدح الأنصار بالسخاء ، بعد مدحهم بالإيثار . وجميع الإشارة باعتبار " مَن " لأنها واقعة على الجمع . ثم ذكر التابعين ، فقال : { والذين جاؤوا مِن بعدهم } هم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة ، وقيل : هم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام ، { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ، وصفوهم بذلك اعترافاً بفضلهم ، وعن عائشة رضي الله عنها : " أُمِرُوا بأن يستغفروا لهم ، فسبُّوهم " { ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ } أي : حقداً وعداوة { للذين آمنوا } على الإطلاق ، { ربنا إِنك رؤوف رحيم } مبالغ في الرأفة والرحمة ، فأنت حقيق بأن تجيب دعاءنا برأفتك ورحمتك . الإشارة : الذين يستحقون المواهب ، والفيض الإلهي والاصطفاء ، ثلاث أصناف ، الأول : الفقراء الذين هاجروا أوطانهم ، وتركوا ديارهم وعشائرهم طلباً لصلاح قلوبهم وأسرارهم ، والثاني : القوم الذين نزلوا بهم إذا آووهم وآثروهم بأموالهم وأنفسهم ، الثالث : مَن جاء بعدهم طلباً لذلك ، على الوصف الذي ذكره الحق { يقولون ربنا اغفر لنا … } الخ . قال الورتجبي : قوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدارَ والإيمان … } الخ ، أثنى الله سبحانه على الفقراء ، ووصَفَهم بأحسن الوصف ، إذ كانوا صادقين في فقرهم ، ثم أثنى على الأغنياء لِصدقهم في غناهم ، ووصَفَهم بالإيمان والمعرفة بالله من قبلهم ولزومهم مواضع قربه ، وخفضِهم جناحهم لإخوانهم من الفقراء ، ومحبتهم ، وتقديسهم من الحسد والشح والبُغض وحب الدنيا ، ثم وَصَفَهم بالسخاء والإيثار ، فلم يبقَ في قلوبهم من حب الدنيا وجاهها ذرة . ومَنْ سجيتُه مقدسة مِن حرص نفسه أفلح وظفر برؤية ربه . هـ . قلت : كأنه يشير إلى أنَّ قوله تعالى : { للفقراء المهاجرين } هم أهل السير من المريدين ، وقوله تعالى : { والذين تبوؤوا الدار … } هو الواصلون العارفون ، أي : تبوؤوا دارَ المعرفة ، حيث سكنوها ، ورسخوا فيها ، وأَلفِوا الإيمان وذاقوا حلاوته . وقوله تعالى : { ويُؤثرون على أنفسهم … } الخ ، بعد أن وَصَفَهم بقطع الطمع والحرص ، والزهد فيما لم يملكوا بقوله : { ولا يجدون في صدورهم حاجة } وَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا ، وبذلك يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم ، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها ، ولا يُمسك ما وجد منها ، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه ، فالآية تشير إلى سلامة الصدور ، وسخاوة الأنفس ، وهذا كان وصف الصحابة - رضي الله عنهم - وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس ، وهي أخلاق الصوفية - رضي الله عنهم - قال الشيخ أبو يزيد : ما غلبني أحد غير شاب من بَلْخ ، قَدِمَ حاجًّا ، فقال : يا أبا يزيد ، ما الزهد عندكم ؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا ، وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا عندنا الكلاب ببلخ ، فقلت : وما الزهد عندكم ؟ فقال : إذا وجدنا آثرنا ، وإذا فقدنا شكرنا . هـ . وسُئل ذو النون : ما حد الزاهد المشروح صدره ؟ فقال : ثلاثة تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت . هـ . ثم عَجَّبَ من المنافقين ، فقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ } .