Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 103-103)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { لا تدركه الأبصار } أي : لا تحيط به ، ولا تناله بحقيقته ، وعن ابن عباس : لا تدركه في الدنيا ، وهو يُرى في الآخرة ، ومذهب الأشعرية : أن رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً ، لأن موسى عليه السلام سألها ، ولا يسأل موسى ما هو محال ، وأحالته المعتزلة مُطلقًا ، وتمسكوا بالآية ، ولا دليل فيها لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية ، ولا النفي في الآية عامًا في الأوقات ، فلعله مخصوص ببعض الحالات ، ولا في الأشخاص فإنه في قوة قولنا : لا كل بصر يدركه ، مع أن النفي لا يوجب الامتناع . قاله البيضاوي . ثم قال تعالى : { وهو يُدرك الأبصارَ } أي : يحيط علمه بها إذ لا تخفى عليه خافية ، { وهو اللطيف الخبير } فيدرك ما لا تدركه الأبصار ، ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمَين السابقين على طريق اللفّ ، أي : لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف ، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير ، فيكون اللطيف مقابلاً للكثيف ، لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها . قاله البيضاوي وأبو السعود . الإشارة : اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده في مظاهر الأكوان ، لكنه لحكمته وقدرته ، قد تجلى بين الضدين ، بين الأنوار والأسرار ، بين الحس والمعنى ، بين مظهر الربوبية وقالب العبودية ، فالأنوار ما ظهر من الأواني ، والأسرار ما خَفِيَ من المعاني ، فالحس ما يُدرك بحاسة البصر ، والمعنى ما يُدرك بالبصيرة . فالحس رداء للمعنى ، فمن فتح الله بصيرته استولى نورُ بصيرته على نور بصره ، فأدرك المعاني خلف رقة الأواني ، فلم تحجبه الأواني عن المعاني ، بل تمتحق في حقه الأواني ، ولا يرى حينئذٍ إلا المعاني . لذلك قال الحلاج ، لما سئل عن المعرفة ، قال : استهلاك الحس في المعنى . فإذا فَنِيَ العبد عن شهود حِسِّه بشهود معناه ، غاب وجوده في وجود معبوده ، فشاهد الحقَّ بالحق . فالعارفون لَمَّا فنوا عن أنفسهم ، لا يقع بصرهم إلا على المعاني ، فهم يشاهدون الحق عيانًا . ولذلك قال شاعرُهم : @ مُذَ عَرَفت الإله لَم أرَ غَيرًا وكذَا الغَيرُ عِنَدنَا مَمنُوعُ @@ وقال في الحِكَم : " ما حَجَبَكَ عن الحَقِّ وجُودُ مَوجُودٍ مَعَه إذ لا شَيءَ مَعَهَ ، وَإنَّما حَجَبك تَوّهُّمُ مَوُجُودٍ مَعَهُ " . وقوله تعالى : { لا تُدركه الأبصارُ } أي : الأبصار الحادثة ، وإنما تدركه الأبصار القديمة في مقام الفناء . وقال الورتجبي : لا تدركه الأبصار ، إلا بأبصار مستفادة من أبصار جلاله ، وكيف يدركه الحدثان ؟ ووجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم . هـ . أو لا تحيط به ، إذ الإحاطة بكُنه الربوبية متعذرة . وعلى هذا حمل الآية في نوادر الأصول ، قال : إدراك الهوية ممتنع ، وإنما يقع التجلي بصفة من صفاته . وقال ابن عبد الملك في شرح مشارق الصغاني ، ناقلاً عن المشايخ : إنما يتجلى الله لأهل الجنة ، ويريهم ذاته تعالى ، في حجاب صفاته ، لأنهم لا يطيقون أن يروا ذاته بلا حجابٍ مرَتبةٍ من مراتب الصفات . وقال الورتجبي : التجلي لا يكون بكلية الذات ، ولا بكلية الصفات ، وإنما يكون على قدر الطاقات ، فيستحيل أن يقال : تجلى كل الهوى لذرة واحدة ، وإنما يتجلى لها على قدرها . هـ . وتتفاوت الناس في لذَّة النظر يوم القيامة على قدر معرفتهم في الدنيا ، وتدوم لهم النظرة على قدر اسغراقهم هنا ، فمن كان هنا محجوبًا لا يرى إلا الحس ، كان يوم القيامة كذلك ، إلا في وقت مخصوص ، يُغيبه الحق تعالى عن حسه ، فيشاهد معاني أسرار الربوبية في مظاهر أنوار صفاته . ومن كان هنا مفتوحًا عليه في شهود المعاني ، كان يوم القيامة كذلك ، لا تغيب عنه مشاهدة الحق ساعة . قال الغزالي في كتاب الأربعين : إذا ارتفع الحجاب بعد الموت انقلبت المعرفة بعينها مشاهدة . قلت : ومعنى كلامه : أن ما عرفه به هنا من التجليات ، صار بعينه هناك مشاهدة لأن المعنى هناك غالب على الحس ، بخلاف دار الدنيا ، الحس فيها غالب ، إلاَّ لمن غاب عنه واستهلكه . ثم قال : ويكون لكل واحد على قدر معرفته ، ولذلك تزيد لذة أولياء الله تعالى في النظر على لذة غيرهم ، ولذلك يتجلى الله تعالى لأبي بكر خاصة ، ويتجلى للناس عامة . وقال في الإحياء : ولَمَّا كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي على درجات متفاوتة ، ثم ذكر حديث التجلي لأبي بكر المتقدم . ثم قال : فلا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر ، ممن هو دونه ، يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر ، بل لا يجده ، إلا عُشرَ عُشرِه ، إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشره ، ولما فَضَل الناسَ بسر وقر في صدره ، فضل لا محالة بِتَجلًّ انفرد به . وقال أيضًا : يتجلى الحق للعبد ، تجليًا يكون انكشاف تجلَّيه ، بالإضافة إلى ما علمه ، كانكشاف تجلي المرئيات بالإضافة إلى ما تخيله أي : إلى ما وصفه له الواصف . ثم قال : وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية ، ثم قال : المعرفة الحاصلة في الدنيا هي التي تستكمل ، فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة ، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف ، إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح . وقال أيضًا : وبحر المعرفة لا ساحل له ، والإحاطة بكنه جلاله مُحال ، وكلما كثرت المعرفة وقويت كثر النعيم في الآخرة ، وعظم ، كما أنه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن ، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا ، ولا يزرع إلا في صعيد القلب ، ولا حصاد إلا في الآخرة . هـ . قال شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه : بل الرجال زرعوا اليوم وحصدوا اليوم ، وفي تفسير الأقليشي لقوله : { اهْدِنَا الصِّرَاط المُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] : ليس لهذه الهدايةـ ما دام العبد في الدنيا نهاية ، حتى إذا حصل في جوار الجبار ، ونظر إلى وجهه العظيم ، كان حظه من النعيم بقدر ما هداه في الدنيا لصراطه المستقيم . هـ . وقال في نوادر الأصول : في الحديث : " إنَّ مِن أهل الجنَّة من ينظرُ إلى الله عزَّ وجَلَّ غُدوَةً وعَشيًّا " ورُوِي عن معاذ أنه قال : " صِنفٌ مِن أهلِ الجَنَّة مَن يَنظُر إلى الله عزَّ وجَلَّ ، لا يُستر الربُّ عنهم ولا يحتَجِبُ " ثم قال : وذُكر أن الرضوان آخر ما ينال أهلُ الجنة ، ولا شيء أكبر منه ، وكل عبد من أهل الجنة حظه من الرضوان هناك فيها على قدر جوده بنفسه على الله في الدنيا . هـ . وقوله تعالى : { وهو اللطيف الخبير } ، قال الورتجبي : هو بلطف ذاته ممتنع عن مطالعة خلقه ، مع علو شأن علمه وإحاطته بجميعهم ، وجودًا وعدمًا ، أي : وإنما يُرى بنوره ، لا بالحواس الخفاشية ، فإنها تضعف عن مقاومة شعاعه ، وتنخنس عند انكشاف سبحاته . هـ . على نقل الحاشية الفاسية . والله تعالى أعلم . ولمَّا كان الاطلاع على هذه الأسرار ، به تنفتح البصائر ، أشار إلى ذلك بقوله : { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } .