Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 112-113)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { شياطين } : بدل من { عدو } إذ هو بمعنى الجمع ، أو مفعول أول لجعلنا ، و { عدوًا } : مفعول ثان ، والضمير في { فعلوه } : للوحي ، أو للعداوة ، و { غرورًا } : مفعول له ، أو مصدر في موضع الحال { لتصغى } : عطف على غرورًا ، أو متعلق بمحذوف ، أي : فعلنا ذلك لتصغى … الخ . يقول الحقّ جلّ جلاله : في تسلية نبيه عليه الصلاة والسلام ـ : وكما جعلنا لك أعداء من الكفار ، { جعلنا لكل نبيٍّ عدُوًّا } من شياطين { الإنس والجن } أي : من مردة الفريقين ، وشياطين الإنس أقبح لأنه يأتي في صورة ناصح ، لا يدفع بتعوذ ولا غيره . { يُوحِي } أي : يُوسوس ، { بعضهم إلى بعض } ، فيوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، ثم يوسوس شياطين الإنس إلى من يريد الحق اختباره وابتلاءه ، يُلقى إليه ذلك الشيطان { زخرف القول } أي : أباطيله ، أي : قولاً مزخرفًا مُزَوَّقًا { غرورًا } أي : لأجل الغرور ، فإن أراد الله خذلان ذلك العبد غره ذلك الشيطان بزخرف ذلك القول فيتبعه ، وإن أراد توفيقه وزيادته أيده وعصمه ، وكل شيء بقدره وقضائه ، { ولو شاء ربك } هدايتهم ما فعلوا ذلك الوحي ، أو ما ذكر من المعاداة للأنبياء ، { فذرهم وما يفترون } على الله من الكفر وغيره ، فلا تهتم بشأنهم . وإنما فعلنا ذلك الإيحاء { لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } فيغتروا به ، { وليَرضَوهُ } لأنفسهم ، { وليقترفوا ما هم مقترفون } أي : وليكتسبوا من الإثم والكفر ما هم مكتسبون بسبب ذلك الوحي من الجن أو الأنس ، وفي الآية دليل لأهل السنة في أن الله خالق الكفر والإيمان ، والطاعة والمعصية ، فالمعصية خلقها وقدرها ، ولم يَرضهَا ، { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبيَاء : 23 ] . الإشارة : كما جعل الله لكل نبي عدوًا من شياطين الإنس والجن جعل للأولياء كذلك تحويشًا لهم إليه ، وتطهيرًا لهم من البقايا ليصلحوا لحضرته ، قال في الحِكَم : " إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكنًا إليهم ، أراد أن يُزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء " . وقال في لطائف المنن : اعلم أن أولياء الله حكمهم في بدايتهم أن يُسلط الخلق عليهم ليطهروا من البقايا ، وتكمل فيهم المزايا ، كي لا يساكنوا هذا الخلق باعتماد ، أو يميلوا إليهم باستناد ، ومن آذاك فقد أعتقك من رق إحسانه ، ومن أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من أسدى إليكم نعمًا فكافئوه ، فإن لم تقدروا فادعوا له " كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق ، ويتعلق بالملك الحق . هـ . وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : آذاني إنسانٌ فضقت به ذرعًا ، فرأيتُ يُقال لي : مِن علامة الصديقية كثرةُ أعدائها ثم لا يبالي بهم . وقال بعضهم : الصيحة من العدو ، سَوطٌ من الله يزجرُ بها القلوب إذا ساكنت غيره ، وإلا رقد القلب في ظل العز والجاه ، وهو حجاب عن الله تعالى عظيم . هـ . وقال شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه : عداوة العدو حقًا : اشتغالك بمحبة الحبيب حقًا ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك ، وفاتتك محبة الحبيب . وقال بعض أشياخ الشعراني في بعض وصاياه له : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك فإنه هو الذي حركه عليك ليختبر دعواك في الصدق ، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير ، فاشتغلوا بأذى من آذاهم ، فدام الآذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم وكفاهم أمرهم . هـ . وهذا كله إنما يكون في البدايات ، كما قال الشاذلي رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا … فإذا تمت أنوارهم وتطهرت من البقايا أسرارهم ، حكَّمهم في العباد ، وأذلهم لهم ، فيكون العبد المجتبى سيفًا من سيوف الله ، ينتصر الله به لنفسه كما نبه على ذلك في لطائف المنن . وذلك من أسرار عدم مشروعية الجهاد من أول الإسلام تشريعًا لما ذكرنا ، وتحذيرًا من الانتصار للنفس ، وعدم تمحض النصرة للحق . وعند الرسوخ في اليقين ، والأمن من مزاحمة الصدق غيره ، وقع الإذن في الجهاد ، هذا بالنسبة إلى الصحابة الكرام ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكامل من أول نشأته ، وإنما ذلك تشريع لغيره ، وترفيع لرتبته . والله تعالى أعلم . ولما طلبوا من يحكم بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم ، أنزل الله : { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } .