Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 60, Ayat: 8-9)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تَبروهم } أي : لا ينهاكم عن البر بهؤلاء ، فـ " أن تبروهم " : بدل من الموصول ، { وتُقْسِطوا إِليهم } أي : تقضوا إليهم بالقسط ، أي : بالعدل ، ولا تظلموهم ، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك ، فكيف في حق المسلم ؟ { إِن اللهَ يُحب المُقسِطين } الحاكمين بالعدل ، رُوِي أن " قُتَيلةَ بنت عبد العزى " قَدِمَتْ مشركة على بنتها " أسماء بنت أبي بكر " رضي الله عنه ، بهدايا ، فلم تقبلها ، ولم تأذن لها بالدخول فنزلت ، وأمرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تقبل منها ، وتُكرمها ، وتُحسن إليها . وقيل : المراد بهم خزاعة ، وكانوا صالحوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ألاّ يقاتلوه ، ولا يُعينوا عليه . قال المحلي : وهذا قبل الأمر بجهادهم . ومثله لابن عطية ، فإنه نقل الخلاف ، ثم قال : وعلى أنها في الكفار فالآية منسوخة بالقتال . هـ . قال الكواشي : نزلت رخصة في صلة الذين لم يُعادوا المؤمنين ولم يُقاتلوهم . ثم قال : وفي هذه الآية دلالة على جواز صلة الكفار ، الذين لم ينصبوا لحرب المسلمين ، وبِرهم ، وإن انقطعت الموالاة بينهم . هـ . قال القشيري : مَن كان فيهم حُسن خُلق ، أو للمسلمين منهم رِفْق ، أُمروا بالملاينة معهم ، شاهد هذه الجملة : " إنَّ الله يُحب الرِّفق في الأمر كله " . هـ . المحشي . وهذا : فيما لا ضرر فيه للمسلمين ، وفي المدارك : حكى الدارقطني أنَّ عبدَ وزيرِ المعتضد دخل على القاضي إسماعيل وكان نصرانيّاً فقام له ورحّب به فرأى إنكار مَن عنده فقال : علمت إنكاركم ، وقد قال تعالى : { لا ينهاكم الله … } الآية ، وهذا رجل يقضي حوائج المسلمين ، وهو سفير بيننا وبين المعتضد ، وهذا مَن البر ، فسكت الجماعةُ عند ذلك . هـ . قال البرزلي : ولعله رأى ذلك ضرورة ، وتأنّس بظاهر الآية ، وخاف مِن أذاه إن لم يفعل ذلك . هـ . وفي حديث الجامع : " بُعثتُ بمداراة الناس " ، قيل : والفرق بينها وبين المداهنة : أنَّ المداهنة : إظهار الرضا بفعل الفاسق من غير إنكار عليه ، والمداراة : هي الرفق في تعليم الجاهل ، والملاطفة في نهي الفاسق عن فعله ، وقد قال تعالى : { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا } [ طه : 44 ] ، وقيل : المداهنة : ترك الدين بالدنيا ، والمداراة : بيع الدنيا بحفظ الدين . وقد عَدّ السهروردي في " الآداب " مِن رُخص الصوفية : التكلُّف مع أبناء الدنيا والرؤساء والسلاطين ، والقيام لهم ، وحسن الإقبال عليهم ، والأدب في ذلك : إلاّ يكون طمعاً في دنياهم ، ولا اتخاذ جاه عندهم كان صلى الله عليه وسلم يدخل عليه سادات قريش فيُكرمهم ، ويُجلهم ، ويُحسن مجالستهم ، وقال : " إذا أتاكم كريم قوم فأكرِموه " هـ . وانظر الأصل الرابع والثمانين في إنزال الناس منازلهم ، فقد ذكر فيه : أن العاقل عن الله يُعاشر الناس على ما دبَّر الله لهم ، فالغَنِيّ قد أكرمه الله كرامةَ ابتلاء ، كما ذكر في تنزيله ، فإذا لم تُنزله المنزلةَ التي أنزله الله فيها ، فاستهنت به ، وحقّرته من غير جرم استحق بذلك الجفاء ، فقد تركتَ موافقة الله في تدبيره ، وأفسدت عليه دينه وأثمتَه ، وكذلك معاملة الملوك والوُلاة على هذا السبيل ، فإذا عاملت الملوك والسلاطين بمعاملة الرعية ، فقد استخففت بحق السلطان ، وكيف يجوز أن تستخف بحقه ، والسلطان ظل الله في الأرض ؟ به تسكن النفوس ، وتجمع الأمور ، والناظر إلى ظل الله عليهم في الشغل عن الالتفات إلى أعمالهم . ثم ذكر أنّ ضد ما ذكر مِن ضعف المعرفة واليقين ، وعدم التخلُّص من النفس ، فلم تكن لقوتِهم مطالعة ما ذكر ، فخافوا على نفوسهم من مخالطتهم أن يجدوا حلاوة بِرهم ، فتخلط قلوبُهم بقلوبهم ، فجانبوهم ، والآخرون نظروا إليهم بغير الجمع ، فشغلوا بما ألبسَهم مِن ظله عن جميع ما هم فيه ، فلم يضرهم اختلاطهم بهم . وبهذه القوة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقون الأمراء ، الذين قد ظهر جَوْرهم ، ويقبلون جوائزهم ، فكان ابن دينار ومحمد بن واسع ، ومَن قبلهم ، والحسن البصري ، يلقون الأمراء ويَقبلُون منهم ، فكانوا يلقونهم بما ذكر من رؤية ظل الله عليهم ، ويُظهرون العطف عليهم والنصيحة لهم . ثم وَجَّه حديثَ ابن عباس : " ملعون مَن أكرم بالغنى وأهان بالفقر " فإنَّ معناه : مَن عظَّم الدنيا وعظَّم أهلها ، فأمّا مَن دقت الدنيا في عينه ، يرى أهلَها مُبْتَلون بها ، بما تقتضيه من القيام بالشكر ، ثم غرقه في حِسَابه ، فيرحمه كما يرحم الذي ذهب به السيل ، ويكرمه ، ويبره بما عَوّده الله ، وأبقاه على دينه ، لئلا يَفسد ، فذلك فعل الأنبياء والأولياء ، وبذلك وصَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه " فهو إنما يُكرم لله ويهين لله ، لا للدنيا ، ومن فعل ذلك للدنيا كان ملعونًا ، ثم ذكر حديث : " مَن أُعطي حظه من الرفق أُعطي حظَّه من خير الدنيا والآخرة ، ومن حُرمه حُرم كذلك " ، ثم ذكر قصة نسْطُور صاحب ابن مريم عليه السلام ورفقه وتلطُّفه مع ذلك الملك الذي سجن صاحبيْه حتى استخلصهما منه برفق ، وأعلم الملكَ وجميعَ الناس في قضية عجيبة ، فعليك بها . { إِنما ينهاكم اللهُ عن } موالاة { الَّذين قاتلوكم في الدين وأَخْرَجوكم من دياركم } ، وهم عتاة أهل مكة ، { وظاهَرُوا } أي : عاوَنُوا { على إِخراجكم } وهم سائر أهلها ، { أن تَوَلَّوْهم } : بدل اشتمال من الموصول ، والمعنى : لا ينهاكم عن مبرة مَن لم يتعرّض لكم ، إنما ينهاكم عمّن أذاكم { أن تَولَّوهُم ومَن يتولهمْ فأولئك هم الظالمون } حيث وضعوا التولي في غير موضعه . الإشارة : لا ينهاكم الله عن النفوس المطيعة ، التي لم تصدكم عن السير إلى الحضرة ، أن تبرُّوا بها ، وترفقوا بها ، إنما ينهاكم عن النفوس الفاجرة ، التي قاتلتكم ، وصدّتكم عن الحضرة ، وأخرجتكم عن دائرة الولاية ، باتباع هواها أن تولوها ، وتسعوا في حظوظها وهواها ، ومَن يتولها ، وبقي في رِقَّها فقد ظلم نفسه وبخسها ، حيث حرمها نعيمَ الحضرة . أو : لا ينهاكم الله عن بعض العامة ، التي لا مضرة فيهم ، أن تبرهم بالوعظ والتذكير ، وتُقسطوا إليهم بقول الإحسان ، إنما ينهاكم عن أهل الإنكار المخالفين لكم ، من الجبابرة الغافلين ، والقراء المداهنين ، والعلماء المتجبرين ، والفقراء الجاهلين ، أن تولوهم فإنَّ مخالطتهم سم قاتل للمريد ، ومَن يتولهم لا يُفلح أبدًا . ثم نَهَى عن رد مَن أسلم من النساء إلى أزواجهن من الكفار ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } .