Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 67, Ayat: 15-18)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { هو الذي جعل لكم الأرضَ ذلولا } مذلّلة ليّنة يسهل عليكم سلوكها . وتقديم لكم على مفعول الجعل للاهتمام والتشويق ، { فامشُوا في مناكبها } جوانبها ، وهو تمثيل لفرط التذلُّل ، فإنَّ منكب البعير أرقّ أعضائه وأصعبها على أن يطأها الراكب بقدميه ، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يتأتى المشي في مناكبها لم يبقَ منها شد لم يتذلّل ، { وكُلوا من رزقه } أي : والتمسوا من رزق الله في سلوكها ، أو إذا تعذّر العيش في أرضٍ فامشوا في مناكبها إلى أرض أخرى ، كما قال الشاعر : @ يا نفس مالكِ تهوي الإقامةَ في أرض تعيش بين من ناواكِ بها أما سمعتِ وعجز المرء منقصَةٌ في محكم الوحي : فامشوا في مناكبها @@ أو : كُلوا من رزق الله الخارج منها ، { وإِليه النُشورُ } أي : الرجوع بالبعث ، فتُسألون عن شكر هذه النعم . ثم هدَّد مَن لم يشكر فقال : { أأمِنْتُم مَن في السماء } من ملكوته وأسرار ذاته ، وعبّر بها لأنها منزل قضاياه ، وتدبيراته ووحيه ، ومسكن ملائكته وأوامره ونواهيه ، فكل ما يظهر في الأرض إنما يقضي به في السماء ، وحينئذ يبرز ، فكأنه قال : أأمِنتم خالق السموات ؟ وقال اللجائي : كل شيء علا فهو سماء ، وسماء البيت : سقفه ، وليس المقصود في الآية سماء الدنيا ولا غيرها من السبع الطباق ، وإنما المعنى : أأمِنتم مَن في العلو ، وهو علو الجلال ، وليس كون الله في سماء الحوادث من صفات الكمال ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً . هـ . وسيأتي في الإشارة تحقيقة عند أهل التوحيد . أي : أأمِنتم مَن في السماء أسرار ذاته { أن يخسف بكم الأرضَ } كما خسف بقارون بعد ما جَعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها ، وتأكلون من رزقه فيها ، بحيث كفرتم تلك النعمة ، فقلبها لكم { فإِذا هي تمورُ } تضطرب وتتحرّك . { أم أَمِنْتُم مَن في السماء أن يُرسل عليكم حاصباً } حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ، أو : ريحاً فيها حجارة . و " أن " : بدل اشتمال في الموضعين . { فستعلمون } عن قريب { كيف نذيرٍ } أي : إنذاري عن مشاهدتكم للمنذَر به ، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ . { ولقد كذَّب الذين مِن قبلهم } من قبل كفار مكة ، من كفار الأمم السابقة ، كقوم نوح وعاد وأضرابهم ، والالتفات إلى الغيبة لإبراز كمال الإعراض عنهم ، { فكيف كان نكير } إنكاري عليهم ، بإنزال العذاب ، أي : كان على غاية الهول والفظاعة ، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط ، وفيه من المبالغة في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتشديد التهويل ما لا يخفى . والله تعالى أعلم . الإشارة : هو الذي جعل لكم أرض البشرية مذلّلة للعبودية ، والقيام بآداب الربوبية ، فامشوا في مناكبها فسيحوا بقلوبكم في جوانبها ، تفكُّراً واعتباراً لِما فيهم من عجائب الإتقان ، وبدائع الحِكم ، فقد جمعت أسرار الوجود بأسره ، وكُلوا من رزقه مما اكتسبه القلب بالنظر والتفكُّر ، من قوة الإيمان ، وهو قوت القلوب ، وشهود الحق فيها ، وهو قوت الأرواح والأسرار ، وإليه النُشور ببعث الأرواح من موت الغفلة والجهل ، إلى حياة اليقظة والمعرفة ، أأمِنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض ، أي : إذا أسأتم معه الأدب . واعلم أن ذات الحق جلّ جلاله عمّت الوجود ، فليست محصورة في مكان ولا زمان ، { فأينما تُولوا فَثَمّ وجه الله } ، فأسرار ذاته تعالى سارية في كل شيء ، قائمة بكل شيء ، كما تقدّم ، فهو موجود في كل شيء ، لا يخلو منه شيء ، أسرار المعاني قائمة بالأواني ، وإنما خصّ الحق تعالى السماء بالذكر لأنها مرتفعة معظّمة ، فناسب ذكر العظيم فيها ، وعلى هذا تُحمل الأحاديث والآيات الواردة على هذا المنوال . وليس هنا حلول ولا اتحاد إذ ليس في الوجود إلاّ تجليات الحق ومظاهر ذاته وصفاته ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما كان عليه ، فما مثال الكون إلا كجبريل حين يتطوّر على صورة دحية ، غير أنَّ رداء الكبرياء منشور على وجه ذاته وأسرار معانيه ، وهو ما ظهر من حسن الكائنات ، وما تلوّنت به الخمرة من أوصاف العبوية . ولا يفهم هذا إلاَّ أهل الذوق السليم . وبالله التوفيق . ثم تممَ بيان المُلك الذي بيده بإمساك الطير في جو الهواء ، وبالنصر لمَن لاَذ به على الأعداء ، وبإتيان الرزق من غيب السماء ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } .