Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 67, Ayat: 19-24)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { أَوَلَمْ يَرَوُا } أي : أَغَفلُوا ولم ينظروا { إِلى الطيرِ } جمع طائر { فوقهم } في الهواء { صافاتٍ } باسطاتٍ أجنحتها في الجو عند طيرانها { ويقبِضْنَ } ويضممنها إذا ضربن بها حيناً فحيناً ، للاستظهار به على التحرُّك ، وهو السر في إيثار ويقبضن الدال على تجدُّد القبض تارة بعد تارة على " قابضات " ، فـ " يقبضن " : معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى ، أي : يصففن ويقبضن ، أو : صافات وقابضات . والطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والهواء للطائر كالماء للسابح ، والأصل في السباحة : مدّ الأطراف وبسطها ، وأمّا القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرُّك . { ما يُمسِكُهُنَّ } في الجو عند البسط والقبض على خلاف مقتضى الطبع { إلاَّ الرحمنُ } الواسع رحمته كل شيء ، ومن جملتها : إمساكه الطير في الهواء بقدرته ، وإلا فالثقيل يسفل طبعاً ولا يطفو ، وكذلك لو أمسك حِفظَه وتدبيره للعالم لتهافت وتلاشى . { إِنه بكل شيءٍ بصيرٌ } يعلم كيفية إبداع المبدعات ، وتدبير المصنوعات ، ومن مبدعاته : أنَّ الطير على أشكال وخصائص هيّأهن للجري في الهواء . { أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دون الرحمن } ، هو تبكيت لهم ينفي أن يكون لهم ناصر من عذابه غير الله ، أي : لا ناصر لكم إلاّ الرحمن برحمته . " أم " منقطعة مقدرة ببل للانتقال من توبيخهم على ترك التأمُّل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب قدرة الله تعالى إلى التبكيت بما ذكر من نفي نصرة غيره تعالى ، والالتفات للتشديد في ذلك ، ومن : مبتدأ وهذا : خبره ، والذي وما بعده : صفتهن وإيثار " هذا " تحقيراً له ، وينصركم : صفة لجُند ، باعتبار لفظه ، ومن دون : إما حال من فاعل " ينصركم " أو لمصدر محذوف ، أي : نصراً حاصلاً من دون الرحمن ، أو : متعلق بينصركم ، كقوله : { مَن يَنصُرُنِى مِنَ ٱللهِ } [ هود : 30 ] ، والمعنى : بل مَن هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم نصراً كائناً من دون نصرة الرحمن ؟ ! { إِنِ الكافرون إلاّ في غرورٍ } أي : ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم ، لا بحفظه تعالى فقط ، إلاّ في غرور عظيم ، وضلال فاحش من الشيطان . والالتفات إلى الغيبة للإيذان بافتضاح حالهم ، والإعراض عنهم ، وإظهار قبائحهم ، والإظهار في موضع الإضمار لذمّهم بالكفر وتعليل غرورهم به . { أمّنْ هذا الذي يرزقكم إِنْ أمسك } اللهُ عزّ وجل { رزقَه } بإمساك المطر وسائر مبادئه ، أي : مَن هذا الحقير الذي يقدر على إتيان رزقكم من آلهتكم إن أمسكه الله ؟ { بل لَجُّوا في عَتُوٍّ ونفورٍ } ، إضراب عن مُقدّر يستدعيه المقام ، كأنه قيل بعد تمام التبكيت والتعجيز : لم يتأثروا بشيء من ذلك ، ولم يذعنوا للحق ، { بل لجُّوا } أي : تمادوا { في عتوٍّ } أي : استكبار وطغيان { ونفورٍ } وشُرود عن الحق لِثقله عليهم . ثم ضرب مثلاً للمشرِك والموحِّد ، فقال : { أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه } أي : ساقطاً على وجهه { أهْدى } ، والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سواء حالهم ، وسقوطهم في مهاوي الغرور ، وركوبهم متن عشواء العتو والنفور . والمُكب : الساقط على وجهه ، والمعنى : أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ، ويخرّ على وجهه في كل خطوة أهدى إلى المقصود { أَمَّنْ يمشي سَوِياً } أي : قائماً سالماً من الخبط والعِثار { على صراط مستقيم } مستوي الأجزاء لا عوج فيه ، ولا انحراف ؟ و " من " الثانية : معطوفة على الأُلى عطف المفرد . وقيل : المراد بالمكب : الأعمى ، وبالسوي : البصير . وقيل : مَن يمشي مُكباً هو الذي يُحشر على وجهه إلى النار ، ومَن يمشي سويًّا : الذي يُحشر على قدميه إلى الجنة . { قل هو الذي أنشأكم } إنشاءً بديعاً ، { وجعل لكم السمعَ } لتسمعوا آيات الله ، وتمتثلوا ما فيها من الأوامر والنواهي ، وتتعظوا بمواعظها ، { والأبصارَ } لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله تعالى ، { والأفئدةَ } لتتفكروا بها فيما تسمعونه وتشاهدونه من الآيات التنزيلية والتكوينية لتترقوا في معاريج الإيمان والمعرفة ، { قليلاً ما تشكرون } باستعمالها فيما خُلقت له . و " قليلاً " : إما نعت لمحذوف ، أو : ظرف ، وما : صلة لمحذوف ، أي : شكراً قليلاً ، أو : زمناً قليلاً . وقيل : القلة عبارة عن العدم . { قل هو الذي ذرأكم في الأرض } أي : خلقكم وكثَّركم فيها { وإِليه تُحشرون } للجزاء لا إلى غيره ، فتهيؤوا للقائه . الإشارة : أَوَلَم يَرَوا إلى طيور أفكار العارفين فوقهم منزلةً ورفعة ، صافاتٍ ، تجول في ميادين الغيوب ، ويقبضن عنانهن عكوفاً في الحضرة ، وسكوناً في النظرة ، ما يُمسِكُهن فيها إلاَّ الرحمن الذي مَنَّ عليهم برحمته ، فأسكنهم فيها ، إنه بكل شيء بصير ، فيُبصر مَن توجه إليه ومَن لا ، أمَّنْ هذا الذي هو جند لكم ينصركم على طريق السلوك ، ويُبلغكم إلى حضرة مالك المَلوك ، من دون الرحمن ؟ إنِ الكافرون بهذا إلاّ في غرور ، حيث حسبوا أنَّ وصولهم بحسب جهادهم وطاعتهم ، أمَّن هذا الذي يرزقكم إمداد قلوبكم من العلوم والمعارف واليقين الكبير ، إن أمسك رزقه فلم يتوجه إليكم إلاَّ القليل ، بل لجُّوا في عُتو ونفور ، أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه ، حيث رام سلوك الطريق بلا شيخ ولا دليل عارف ، أهدى أمَّنْ يمشي سويًّا سالماً من الانحراف ، على صراط مستقيم ، تُوصله إلى حضرة العيان ، وهو مَن سلك الطريق على يد الخبير ، بل مَن سلكه على يد الخبير أهدى وأصوب ، قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم دلائل السلوك إلى معرفته ، لتستدلوا عليه بالأدلة السمعية والعقلية ، ثم تَتَرَقون إلى صريح معرفته ، بسلوك الطريق على يد الخبير ، قل هو الذي ذرأكم في أرض العبودية ، وإليه تُحشرون بشهود عظمة الربوبية . ثم سألوا عن وقت هذا الحشر ، كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } .